كانت قضية الجنوب اللبناني تتفاعل في آفاق العالم تتحدث عن شعب أرادت الآلة الصهيونية تركيعه وفرض إملاءاتها عليه ودمجه في العصر الإسرائيلي الذي إستسلم أمامه الجميع.
كان النطق بالرفض والصراخ بوجه المحتل تهمة يدفع ثمنها المناضلون من أجل حرية قرارهم وأرضهم لا لغاية سياسية أو مناصب ومراكز إلا لوجه الله فقط.
كانت أداة المقاومة الوحيدة بيدهم هي الإستسلام ومجاراة التيار والركوب مع الموجة أو الحياد ليحفظوا مواقعهم السياسية ومكانتهم في الدولة.
في تلك اللحظة كان دور محمد سعد ورفاقه. جاء محمد سعد في الوقت المناسب ليقدم مقاومة تتجرأ بالسلاح والكلمة، وليترجم شعارات قدوته السيد موسى الصدر بأن السلاح زينة الرجال في وجه إسرائيل فقط لا في زواريب بيروت أو لحسابات داخلية أو إقليمية .
ما ميز محمد سعد وتجربته القصيرة والرائعة في العمل المقاوم أنه أعطى البندقية هويتها الصحيحة ووجهها بالإتجاه الصحيح نحو قلب العدو فأرداه قتيلا ونحو عقله فأربكه.
قدم نموذج في العمل المقاوم جدير بالدراسة لأولئك الذين يتبجحون بالمقاومة على طريقتهم الخاصة، حدد هدفا واحدا لا تقية فيه وإتبع سياسة نقية لا باطنية فيها. هدف وسياسة كانت لأجل القضية التي يؤمن بها وهي الجنوب اللبناني وتحريره.
إبتعد محمد سعد وخليل جرادي وداوود داوود عن الشعبوية في الخطابات فإنتقدوا العمليات التي كانت تقام ضد الصهاينة من دون تخطيط والهادفة فقط لتسجيل النقاط الإعلامية لا غير.
فإنتقد الصاروخ الذي يطلق على المستعمرات فيثقب جدارا وفي كثير من الأحيان لا يصب هدفه بل يسقط على منازل المدنيين في الجنوب ليواجه برد إسرائيلي مدمر ومجازر.
تبنى محمد سعد المقاومة التي تؤمن الحماية لشعبها وجمهورها ولا تبيعهم شعارات فارغة وغير واقعية. كان الرجل واقعيا لأقصى الحدود وحدود واقعيته هدفه الواضح وسياسته المستقيمة التي تصب في خانة تحرير الجنوب وحماية أهله. إبتكر وسائل متنوعة ومبدعة لمقاومة إسرائيل فكانت العمليات الإستشهادية التي هزت الأرض تحت أقدام الصهاينة.
فجهز العربة التي إستعملها فاتح عهد الإستشهاديين أحمد قصير لتفجير مقر الحاكمية الصهيونية في صور وهي الأكبر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.إضافة إلى عمليات إستشهادية أخرى كان له الفضل في الإعداد لها والتجهيز والتخطيط وإعطاء كلمة الموافقة النهائية عليها كعمليات علي صفي الدين وحسن قصير وغيرها.
سجلت المقاومة اللبنانية في عهده رقم قياسي في العمليات ضد العدو الإسرائيلي فاقت ال 30 عملية في اليوم. لم يكتف بهذا فقط بل نقل المعركة الإعلامية إلى قلب الكيان الصهيوني من خلال خطابه الذي وجهه إلى المستوطنين لينقل لهم حجم الخطر والضربات التي يتلقاها جيشهم في قلب الجنوب اللبناني. يحدثني أحد كوادر المقاومة اللبنانية سابقا في حركة أمل عن واقعة حصلت أمامه عندما قام محمد سعد بالزحف ليلا ليصل إلى دبابة إسرائيلية أكثر من مرة وفي كل مرة كان يرسم شعار " أمل" عليها وينسحب على الرغم من قدرته على تفجيرها_ " أمل" وهي الجناح العسكري لحركة أمل وكانت رأس الحربة في المقاومة اللبنانية حينها،_ يكمل الكادر ويقول:" كنت أستغرب من هذا التصرف ولم أفهمه إلا عندما كنت أستيقظ في اليوم الثاني على أصوات المدرعات الإسرائيلية تتخبط وتستنفر في حالة من الخوف والرعب لتستغل حينها المقاومة حالة الإرباك هذه وتقوم بعملية نوعية أكبر".
هكذا فكر إستراتيجي مقاوم إستطاع تحويل الحالة المقاومة في الجنوب اللبناني وخصوصا في القرى السبع وبالأخص قرية معركة الجنوبية إلى مجتمع مقاوم تحول فيه الحجر والعجوز والطفل والشيخ والشاب والإمرأة إلى مقاومين وإبتكرت معركة وقتها جهاز الإنذار المبكر من خلال صيحات مآذن الجوامع بالتكبيرات عندما تحصل مداهمات صهيونية للقرية ما عرف لاحقا بنظام :" الله أكبر". نعم، آمن محمد سعد بالعمل المقاوم المدني من مظاهرات وإعتصامات وإضرابات، فالمقاومة بنظره عملية متكاملة تشمل أدوات ووسائل مختلفة لذلك كان على تنسيق دائم مع الشيخ راغب حرب الذي قاد عمليات المقاومة المدنية في منطقة النبطية.
وآمن أيضا بالعمل السياسي المقاوم إلا أنه إنتقد الوصوليين والإنتهازيين الذين يتاجرون ويستغلون دماء الشهداء لتقوية محور خارجي على حساب آخر وللوصول إلى مراكز السلطة والحكم. كان إنسانا يعشق قضيته ويكره المزايدات والشعبوية وكان صعبا في الحق ومؤمنا رساليا حتى تحقيق هدفه النهائي. فلم يساوم على قضية الجنوب ولم يكترث بصراعات إقليمية خارج حدود الوطن وكان يعمل بمبدأ أينما تكون القضية قضية حق فنحن معها، وأي قضية أحق من قضية الجنوب! لم يكن يوما جنديا في مشروع خارجي ولم يستقو بسلاح مقاومته لتركيع خصومه السياسيين ولم يجير شباب الجنوب للدفاع عن أنظمة إقليمية ظالمة . كان قراره من صلب الجنوب ولمصلحة لبنان. لذلك كان محمد سعد وطنيا ولبنانيا، يعشق الجنوب ويحس بأوجاع أهل عكار ودير الأحمر ومحرومي لبنان.
لم يميز بين دين ومنطقة ومذهب فالحرمان يطال الجميع والظلم كذلك. إمتلك رؤية وطنية مقاومة لكافة أنواع الظلم والقهر والإحتلال والحرمان، وكان خطيبا مفوها ولسانا لا يصدح إلا بالحق، لا تهمه الشكليات، يجلس في الحسينية في الصفوف الخلفية بدون مرافقين وأمنيين، يقود التظاهرات الحسينية التي حولها إلى ملاحم بطولية بوجه الصهاينة فأرعبهم وكان كارها للطلات الإعلامية وبيانات التبني للعمليات المقاومة حتى أن إحدى الصحافيات إستغربت عندما رأته بأم العين ولم تكن لتتوقع أن هذا الرجل النحيل والقصير والخفيف اللحية هو من يقود عمليات المقاومة اللبنانية في الجنوب وهو من سيسقط لاحقا القبضة الحديدية بقبضة حسينية. كانت مقاومة محمد سعد مقاومة ردة الفعل لا الفعل ولم تكن مقاومة إستباقية ولم تكن مقاومة عابرة للحدود الجغرافية بل كانت ردة فعل على إرتكابات وتصرفات الصهاينة بوجه أهل الجنوب المظلومين.
لم يكن تابعا لأحد أو زلمي عند هذا المحور أو ذاك أو تأتيه التعليمة من هنا وهناك ولم تكن ثقافته :" الصباط و الرنجر والكرتونة" وأهم من هذا كله أنه لم يربح أحد جميلة بأنه يقاوم لأنه إعتبر المقاومة فعل واجب عليه إتجاه أرضه وقضيته.
كان مهذبا وبريئا ولطيفا ولكن خشنا وصلبا مع العدو الصهيوني. لم تكن مقاومته مقاومة شراء الإعلاميين وخلق حالات سياسية للدفاع عنها بل مقاومة يتبعها ويدافع عنها كل من هو مؤمن بخياراتها ولم يخون أحد إذا ما إنتقده أو خالفه برأي ولم يسجل أنه حول الشرفاء إلى خونة والعكس بين ليلة وضحاها. تميز أيضا بحس التسامح والإعتراف وتقبل الآخر فلم يلغ تاريخ أحد أو صادره ولم يسرق عمليات بطولية أو شهداء وألصقها بحركتها بل كان صادقا وأمن الفرص وساعد كل فصيل حاول أن يقاوم إسرائيل في الجنوب فلم يبتز ولم يغتال أي مقاوم أو أي شخص سياسي ولم يصادر حق الجميع في المقاومة.
هذه التجربة المقاومة الفريدة نالت حسن ختامها عندما نالت إسرائيل منها بتفجير حسينية معركة بمن فيها في 4 آذار 1985 ما أدى إلى إستشهاده ورفاقه وعدد من أهالي معركة.
اليوم ونحن نعيش الوجع والألم في منطقتنا جراء صراع المحاور والهويات نشتاق إلى هذا النوع من المقاومة البريئة، مقاومة الزيت المغلي والحجارة والسكاكين والعبوات الناسفة، مقاومة حدودها10452 كلم2 عابرة للطوائف والقلوب، مقاومة لبنانية قرارها من لبنان ويصب لمصلحة لبنان. مقاومة ما كانت تميز بين يهودي وعربي وفارسي أو أجنبي إذا ما فكر بإحتلال الجنوب أو دخوله تحت أي عنوان ومقاومة حرة وسيدة ومستقلة لم يصلها أي مساعدة من أحد ولم تطلب من أحد بل إعتمدت على نفسها وذاتها وقدراتها وشعبها. نشتاق للقادة اللبنانيين والعلم اللبناني الذي يلف الشهداء والنشيد الوطني الذي يودع الشهداء إلى مثواهم الأخير. نشتاق إلى " جمول" و " أمل" وعمليات المقاومة في شوارع بيروت ضد العدو وفي خلدة.
نشتاق إلى تلك المقاومة التي جعلتنا نفتخر يوما بأننا لبنانيين بأننا جنوبيين، ونشتاق لقادة كمحمد سعد جعلت إسرائيل تعترف بأن قتله يوازي السيطرة على 200 قرية في الجنوب.
للمقاومة اللبنانية التي جعلتنا نؤمن بدفء وطننا الشوق والحنين ولقادتها وشهدائها ألف نور وتحية وسلام.