بعد التدخل الروسي المباشر وإشارات التفاهم أو التجاذب الأميركي – الروسي مع تراجع في الأدوار الإقليمية والدولية الأخرى، أخذ مصير سوريا يخرج من يد السوريين. وإذا كان البعض يعتبر طرح شكل الدولة الاتحادية لسوريا المستقبل بديلا محتملا لفشل الهدنة والمفاوضات، فإن المتابعين لمسار نزاعات مماثلة يحذرون من سابقة استفراد واشنطن وموسكو بترتيب اتفاق وقف الأعمال العدائية، وهو أول وقف إطلاق نار جزئي منذ بدء النزاع المسلح. ولذا أصبح هذا التدويل من فوق أمرا واقعا وسينجم عنه إما استنباط حد أدنى مشترك بين مصالح كبار اللاعبين، أو تكريس غلبة روسيا. بيد أن أي مسعى لفرض خيار تقسيمي أو لتحبيذ الإقصاء والهيمنة، ستسفر عنه المزيد من الفوضى القاتلة والتطرف، وسيكون وصفة لحرب الثلاثين عاما في الشرق الأوسط الكبير.
عشية الذكرى الخامسة لاندلاع الحراك الثوري السوري، انتهى زمن التحفظ ودبلوماسية الكواليس، وأخذت تنكشف بعض الأوراق. للمرة الأولى خلال جلسة استماع في الكونغرس، الأسبوع الماضي، قالها جون كيري مواربة “في حال لم يتوقف القتال ويبدأ الحل السياسي، يمكن الوصول إلى تقسيم سوريا”. وبعد الضجة صدر نفي دبلوماسي يحمّل المسؤولية لسوء الترجمة! وانكشف المستور مع إيحاءات أوضح لنائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، الذي صرح في 29 فبراير 2016 أن “سوريا قد تصبح دولة اتحادية إذا كان هذا النموذج سيخدم الحفاظ على وحدتها”.
على الورق ووفق وثيقة جنيف 1 في 2012، والقرار الدولي رقم 2254 الصادر بعد مباحثات فيينا في خريف 2015، هناك تمسك بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية ويصل الأمر للكلام عن “سوريا علمانية” من أجل إبراز الطابع التعددي ودور المكونات الأقلية، ولذا ليس من المستبعد أن يكون ذلك المعبر لاعتماد شكل اتحادي يأخذ في الاعتبار مصالح الأكراد القومية وموقع العلويين المستقبلي في إطار يلائم تقاطع بعض المصالح الدولية والإقليمية وخصوصا الروسية والإيرانية، وربما الإسرائيلية في حال توفر ضمانات يطلبها بنيامين نتنياهو من روسيا وأميركا حول احترام ما يسميه خطا أحمر يتمثل بـ”عدم فتح جبهة الجولان بدفع من إيران، وعدم تسليم حزب الله أسلحة متطورة”، لكن ذلك يعني، عمليا، اهتمام إسرائيل بكل ما يجري من جوار دمشق إلى جنوب سوريا.
في هذا الصدد يمكن لبعض المراقبين اعتبار ما حصل في سوريا من تحطيم لقدراتها وبنيتها التحتية ملائما تماما لمصالح إسرائيل، لكن تعزيز النفوذ الروسي (بالرغم من تنسيق راعى حتى الآن مصالح إسرائيل) في سوريا معطوفا على تجذر النفوذ الإيراني، سيحد من هامش المناورة الاستراتيجية لإسرائيل. وإذا أضفنا إلى ذلك اشتداد النزعات الراديكالية الجهادية في مجمل الإقليم انطلاقا من “جوراسيك بارك الإرهاب في العراق وسوريا”، ستزداد دائرة المخاطر في ظل رقصة التحالفات والمحاور المتجسدة مثلا بتموضع حركة حماس بين طهران وأنقرة والدوحة، أو من خلال التشدد الخليجي والعربي حيال حزب الله خاصة بعد تصوره إحداث اختراق في زيارة وفد منه إلى مصر للقيام بواجب التعزية بمحمد حسنين هيكل، الذي كتب عن خسارة العرب الاستراتيجية في 1967 في سياق ما أسماه حرب الثلاثين سنة في القرن العشرين.
على كل، مستقبل سوريا لا تصنعه التصريحات والتمنيات ولا حتى الخطط والسيناريوهات، وبالطبع لا يصنع على طاولة المفاوضات في جنيف وغيرها، بل على الأرجح سيكون خلاصة التضحيات الجسيمة والنتائج الميدانية، وما يجري منذ أسابيع بالقرب من الحدود التركية وعلى أبواب الرقة، سيكون مفصليا.
في سيناريو الحكم الاتحادي، سيكون الخاسر الأكبر هو المكون الأكثري العربي السني الذي عانى من تدمير مدنه وبيئته وكان الرافد الأكبر للتغريبة السورية بعد تفاقم التطهير الممنهج ضده بالصواريخ والبراميل والتهجير والحصار والتجويع. وبالطبع فإن ذلك سيتم على حساب المصالح التركية والعربية في الإجمال (خاصة السعودية). وبالرغم من دعم باريس ولندن وبرلين للأكراد في المعارك ضد داعش، يسود الانطباع في أوروبا على ضوء أزمة اللاجئين (وصل الأمر بحلف شمال الأطلسي إلى اعتبار روسيا والنظام السوري مسؤولين عن استخدام اللاجئين سلاحا ضد أوروبا)، بأن الحلول الهشة في سوريا ستكون أيضا على حساب الأوروبيين.
ويكمن بيت القصيد إزاء مستقبل سوريا أو حيال أي مشروع لإعادة تركيب الإقليم في موقف واشنطن منه وبالقياس لمستوى التقاطع مع الدور الروسي أو التناقض معه. بعد الاتفاق حول الأسلحة الكيميائية السورية في سبتمبر 2013، كان هناك تصور بتركيب تسوية لافروف – كيري لهذا القرن بديلا عن اتفاقية سايكس بيكو، لكن الاشتباك الأوكراني في 2014 وعودة منطق الحرب الباردة أخذا يقلصان من حظوظ هذه التسوية خاصة بعد الاختراق الاستراتيجي الروسي في العام 2015، الذي يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لترجمته سياسيا، بينما يمارس جون كيري بناء على تعليمات من باراك أوباما مهمة مسايرة الجانب الروسي واحتواء اندفاعته، وهذا يعني تمرير الوقت في 2016 بانتظار الإدارة الأميركية الجديدة، ولكن لن يكون ذلك خاليا من المخاطر لأن أفق الحل السياسي شبه مسدود، ولأن تقييم الاستخبارات العسكرية الأميركية الأخير يحذر من ازدياد الدعم في 2016 لنظام الأسد من قبل روسيا وإيران وحزب الله، وهذا يعني أن اتفاق الهدنة الأخير ليس بالنسبة إلى القيصر الجديد إلا ستارا لفرض رؤيته حول تجميل النظام وتعويمه، وبدء مشوار إعادة تركيب سوريا انطلاقا من ميزان القوى الجديد المرتسم لصالح النظام وأيضا لصالح قيام وضع كردي خاص في شمال وشرق سوريا.
إذا قرأنا جيدا ترحيب إقليم كردستان باقتراح الدولة الاتحادية في سوريا، فهو يشكل تطورا سياسيا تبعا لعلاقة أنقرة وأربيل. لكن المراقب لوصول الطائرات السعودية إلى تركيا وبدء مناورات رعد الشمال، يتضح له أن الصراع السوري مفتوح ولن يقبل المكون الأكثري استبعاده عن “سوريا المفيدة” وعن دمشق الأموية كي يرضى ببعض الشمال والشرق والبادية وجزر متناثرة وسطا وجنوبا، أما التحالف العربي الإسلامي المناهض للإرهاب فستكون له مهمة تقريرية حيال مستقبل سوريا في اللحظة المناسبة إذا تحطمت الآمال الواهية حول الحل السياسي.
حتى الآن انتقلت اللعنة السورية إلى أكثر من مكان في الجوار والعالم، وإذا اعتبر البعض أن تقسيم سوريا هو أهون الشرور، فهو يهين الحاضر ويجازف بالمستقبل لأن فتح هذا الباب سيقود إلى المزيد من إسقاط الدول المركزية والتفكك، وستكون إعادة التركيب مرادفة لحرب ثلاثين سنة جديدة.
صحيفة العراب