"الضد يظهر حسنه الضد". غير أن الضد قد يُظهر الحسن كما قد يظهر القبح، على غرار حالتنا حين تنشدّ أبصارنا وأسماعنا إلى أطفالنا المبدعين وأصواتهم الرائعة وحضورهم البهي وبراءتهم النقية كالفجر. عشرات الملايين ينتظرون طلتهم المسائية مرة في الأسبوع على امتداد أشهر، كنا نشاركهم الطرب والفرح والدمعة والبسمة، ونرقص على إيقاعات أصواتهم الشجية كالبلابل. وحين يغادرون المكان كانت تحتل الشاشات من بعدهم صور بشعة مقززة لسياسيين أو لأتباع يصرون على نعت أنفسهم بالمحللين "الاستراتيجيين".
وحين نطفئ التلفاز نتذكر أن الابداع في بلادنا ينبت في كل ميادين النشاط البشري، في الطب وعلوم الفضاء وعلوم الطبيعة، في الاتصالات والذرة والاقتصاد، في الشعر والرواية، في العزف وفي الرقص وفي الرسم، في كل شيء كل شيء، إلا في السياسة. ما أبشع الساسة الذين أفرزتهم مجتمعاتنا الحديثة، بأصولياتها القومية والاشتراكية والدينية.
هؤلاء يأسروننا بإبداعهم وأولئك يسجنون مجتمعاتهم داخل أسوار التخلف. بين من يجعلنا "نطير" من الفرح ومن يجعل شعوبنا تهاجر من غير عودة، وربما تموت قبل خط الوصول، في التايتانيك أو بحر إيجة أو طائرة كوطونو، أو في الزنازين أو بسيوف التكفيريين أو بحبر إيديولوجياتهم الفتاكة.
إن لم يحالف الحظ أحد المتنافسين من بين الأطفال كان يبكي ويبكينا. دمعة واحدة منه تخلط الفرح بالحزن وترسم الأمل من غير كآبة ولا اكتئاب. أما لو تهدد سياسي بالسقوط فالويل والثبور وعظائم الأمور، وإغراق البلاد في بحار الدم و أتون الحروب الأهلية. من المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط! أين أنت يا محمود درويش؟ حاصر حصارك. إنهم يقتلون المواهب والعبقريات ويغرقوننا في أكوام من الأسئلة التافهة. ساسة لبنان يغرقوننا في جبال النفايات.
في لبنان نفايات وفي سواه حروب وأشكال من القهر والاستبداد رابضة على صدر الأمة، والأطفال على امتداد الأمة يغنون للمستقبل، وساسة يسرقون منهم الأمل ويضعونهم على حافة اليأس وعلى شواطئ الهجرة الدامية. فوارق هائلة والأسباب بسيطة. أطفال يتنافسون على صنع الجمال، بينما يتنافس الساسة على اختلاس المال ومصادرة الثروات وعقد الصفقات وقهر الشعوب بالحروب، كأنهم يتمثلون آيات الله الذي يقهر عباده بالموت.
تمر الساعات والليالي بطيئة ونحن ننتظر الأطفال في الحلقة التالية لنشاهدهم ونطرب لأغانيهم. كنا، حين يغيبون وراء الشاشات، نحاول أن نستعيدهم وأن نبقيهم في الذاكرة القريبة على مدار الأيام المقبلة. ننتظر عودتهم المتألقة، وننتظر، في المقابل، رحيل الساسة المقرفين. شتان ما بين انتظار وانتظار.
نرى أنفسنا مدفوعين إلى هذه المقارنات غير المتكافئة، فنضع البراءة والفن والابداع إزاء الوحشية والجشع والاجرام. شتان ما بين العالمين. نفعل ذلك رغماً عنا، لأن التناقض هو الفاضح ولأنهما ضدان لا يلتقيان كالماء والنار أو كالجنة والجحيم أو كالليل والنهار، أو كأن المسافة بينهما كما اليابسة والفضاء والأرض والسماء.
من يفرض علينا أن نختار بين أرحام البراءة وبؤر الفساد، بين القادمين من الطفولة والقادمين من الأنظمة الأبدية والعصابات والميليشيات والتسلط؟ لكن، ليس أمامنا سوى خيار واحد، مع أنه خيار محظور. إنهم يسدون نوافذ المستقبل. أطفال الابداع يتربون على حب الحق والخير والجمال وكل القيم السامية، أما الفساد فله ورثة ومتسلطون يصادرون الحق ويشوهون القيم، وهم المسؤولون عن رواج الفن الذي يشبههم ويناسبهم لأنه منحط. والفارق بين العالمين ناجم عن المسافة بين سياسة نبيلة وساسة ساقطين.
الفن العظيم لا يموت. وليل الاستبداد الطويل الذي اقتلع الحناجر وبتر الأيدي وكسر الأقلام لا بد أن ينجلي عن صباح مشرق كوجوه مبدعينا الصغار. بعد أن أحرقوا كتب ابن رشد جاء من يصنع فيلماً ويغني فيه المغني: "لسه الأغاني ممكنة" .
نعم، مازالت الأغاني ممكنة، وكبار المبدعين يمسكون بأيدي الصغار لتستمر الأجيال وتستمر الأوطان وتكبر الطفولة وتنقرض ديناصورات القهر والفساد والاستبداد.