لعلها حرب مصطلحات، كما دأب الرئيس السوري بشار الاسد على توصيف الأزمة الطاحنة في بلاده طوال السنوات الخمس الماضية. فالارقام القياسية من القتلى والجرحى والمهجرين نتيجة العنف غير المسبوق، ليست سوى تعبير عن خلاف نحوٍ، يمكن حلّه في مجمع لغوي، ومن دون تدخل خارجي.
لكن الفصاحة لم تعد تجدي نفعاً أو تداري ضعفاً. فقد جرى استنفاد اللغة في كلام يبدو في ظاهره حاداً وحاسماً وغير مألوف في التخاطب السياسي، لكنه في الجوهر كلام لا يمكن ان يحيل إلا الى تناقض وإلتباس. فالعمل على جرّ حزب الله الى جدل حول الارهاب، لا يحاصره ولا يحرجه ولا ينتقص من قيمته ولا من وظيفته، لكنه يفاقم العجز عن فهم سلوكه، ويعمق الفشل في إدارة الصراع معه.
الجدل يدور في الوقت الذي يريد حزب الله من بقية القوى اللبنانية ان تشكره ضمناً لانه قرر عن سابق تصور وتصميم في نقل معاركه من الداخل اللبناني الى ما وراء الحدود. وهو أمر صحيح الى حد بعيد. فتحول الحزب الى فرقة تدخل سريع في سوريا والعراق والكويت واليمن وسواها من الدول العربية والاجنبية التي ينتشر فيها مقاتلوه وخبراؤه ومستشاروه، هو بمعنى ما مكسب للبنان وإسهام غير مباشر في أمنه وإستقراره، خصوصا وانه لا يكلف البلد أي شيء، ولا يخل بموازين القوى السياسية بين طوائفه ومذاهبه بشكل حاد او خطر..وهو إذ يهز تلك الموازين الداخلية بين الحين والاخر فانه لا يستغل، حتى الان على الاقل، كل ما راكمه في السنوات الخمس الماضية تحديداً من رصيد عسكري وأمني خارجي.
الشكر ممكن، طالما ان الحزب باقٍ خارج الحدود، يقاتل على اكثر من جبهة بعيدة، ويسلم ضمناً بان الصراع مع اسرئيل نُحي جانباً، بعدما إستنفد غرضه وضاقت أفقه. وهو أيضا مكسب للبنان، الذي دفع لوحده الكثير الكثير في هذا الصراع على مدى العقود الستة الماضية..برغم انه ما زال مهدداً بان يدفع المزيد، نتيجة التكوين العدواني الاسرائيلي، او نتيجة الاستخفاف العربي او الايراني بتضحياته.
الكلفة التي يدفعها البلد نتيجة مغامرات الحزب الخارجية كانت ولا تزال محتملة، ويمكن التكيف معها. حتى العقوبات السعودية والخليجية فانه يمكن إستيعابها بسهولة، لا سيما وان أشدها، أي تلك التي تصيب الجيش وقوى الامن اللبنانية، ما زال يمكن التراجع عنها، لان الهبات جاءت في الأصل بقرار دولي، جوهره حماية لبنان من مخاطر الحرب السورية، وموازنة قوة حزب الله، او ربما تحييده عن أي مواجهة على الحدود الشرقية..وهو قرار ما زال ساري المفعول.
وبهذا المعنى يفقد القرار السعودي والخليجي مغزاه العملي ويصبح أداة مؤقتة للضغط على جميع القوى اللبنانية، عدا حزب الله، من أجل تشكيل جبهة داخلية مناوئة لتدخلاته العسكرية والامنية في كل من سوريا والعراق واليمن والكويت وحتى في السعودية نفسها..لكن مثل هذه الجبهة ليست فكرة جذابة للبنانيين، فضلا عن كونها ليست مجدية أبداً، خصوصا وان الامين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابه الاخير عفّ عن الداخل اللبناني، وعفا عن مختلف قواه السياسية، من الخصوم الى الحلفاء. وهو ما كان له صداه المحلي.
الجدل الجدي الوحيد هو ما يمكن ان يدور والاهم حول النظرية التي يثبتها خصوم الحزب في الاذهان عن أنه قوة اسطورية لا تقهر لا في الامن ولا في السياسة، وهو يحكم لبنان من اقصاه الى اقصاه ويخضع المؤسسات على اختلافها، ويحدد السياسات بكامل تفاصيلها..لكي يبرروا خواءهم وضعفهم.
حزب الله هو بلا شك قوة فائضة عن حاجة لبنان، وها هو يفيض الان خارج حدوده، ربما اكثر من ذي قبل، لكن هذا الفيض هو جزء من تكوينه الطبيعي كمشروع سوري-ايراني مربح جداً، بل كمشروع باهر فعلاً.. لا يمكن ان يواجه بجدل ساذج حول العروبة او الإرهاب، ولا يصح ان يُستدعى الى الداخل، حيث يتساقط خصومه الواحد تلو الآخر في حرب المصطلحات.