أن يمضي سعد الحريري أيامه في بلده وبين أهله، أفضل بمليون مرة من استمراره مهاجراً، يخاطب جمهوره موسمياً عبر الشاشة ويتلقى الرسائل والشكاوى، الواحدة تلو الأخرى، تعبيراً عن فقر الحال.. وتشرذم «التيار».
هو وقت سياسي ضائع بامتياز، محلياً وإقليمياً ودولياً، فلا رئاسة جمهورية ولا سلة تسوية في المدى المنظور لبنانياً، ولا شيء سورياً يتعدى محاولة وقف النار وتثبيت خطوط الهدنة، بعدما تحولت «المخاطرة» الروسية ـ الأميركية إلى أمر واقع متدحرج ميدانياً وسياسياً، ولا شيء انقلابياً في الواقع الدولي، قبل انجلاء صورة الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف المقبل.
كان يمكن لسعد الحريري أن يستمر في غربته المفتوحة، متذرعاً بالخطر الأمني، وفي الوقت نفسه، يمنّي نفسه بلحظة تقرر فيها «المملكة» الإفراج عن مستحقاته المقدرة بمليارات الدولارات، لكن الانتظار طال ولا مؤشرات بانفراج مالي قريب، وها هو «تيار المستقبل» يكاد يتحول إلى «تيارات».. وثمة «مواسم» على الأبواب لا يمكن تفاديها أو الهرب منها.
صارت المعادلة التي نوقشت على مدى أشهر طويلة واضحة: الانتظار واقع ومستمر، لكن أيهما أفضل للحريري، أن يبقى متنقلاً على خط الرياض ـ باريس حصراً، أو يعود الى بيروت؟
حسم الأمر، فكانت «العودة الميمونة» التي أضفت حيوية سياسية منذ ثلاثة أسابيع، لا تقتصر على جمهوره، بل على مجمل الوضع السياسي، وهنا ينبغي أن يسجل للحريري أنه، برغم احتدام اشتباك «المحمدين» وحدّة الاشتباك الإقليمي (تحديدا السعودي ـ الإيراني)، يجهد في محاولة «تحييد» نفسه لبنانياً عن «الهجوم السعودي الكبير» على «حزب الله»، وإلا فكيف يمكن أن يفسر قراره بالمضي في الحوار الثنائي بين «تيار المستقبل» و «حزب الله» (هناك جلسة جديدة الأسبوع المقبل) وكذلك تمسكه بمبادرته المتمثلة بترشيح رئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، برغم كل ما شابها من التباسات وعيوب وبرغم كل ما تعرضت له من نيران صديقة وغير صديقة منذ اللحظة الأولى لتسريب خبر لقاء باريس الأول؟
بهذا المعنى، ألزم سعد الحريري نفسه، حتى الآن، بجدول أعمال لبناني، وحصر مشاركته في الاشتباك الإقليمي، ضمن حدود التعبيرات اليومية التي «تدين» و «ترفض» و «تستنكر» و «تستهول» كل ما يتصل بانخراط «حزب الله» في الاشتباك الإقليمي الكبير!
لم يعد الحريري يملك لا القدرة ولا الإمكانات ولا الوقائع التي تجعله يتبنى خطاب «الساحات» يوم كان يتصرف مع باقي حلفائه، وخصوصاً وليد جنبلاط، بأن القيادة السورية سيكون مصيرها إما السجون أو القبور أو المنفى السياسي!
ترك الحريري «العدة الإقليمية» لمن يتقن لعبة التحدي قولاً وفعلاً، سواء على جبهة الجنوب أو الجبهات المفتوحة في كل نواحي الإقليم. لزعيم «المستقبل» أن ينخرط في اللعبة السياسية الداخلية التي نجح في هز مياهها الراكدة منذ سنوات، بقراره المتمثل بترشيح فرنجية وباعتماد سياسة إدارة الظهر لحليفه المسيحي الأول سمير جعجع وانفتاحه على الرئيس نبيه بري وحزب «الطاشناق» وطلال ارسلان.. والأهم قراره القاضي بإعادة «لمّ شمل السنّة» في لبنان، وهو ما تم التعبير عنه بالانفتاح على نجيب ميقاتي (ولو أن ثمة «تمريك» حول مَن يقوم بزيارة مَن هذه المرة) وعبد الرحيم مراد وفيصل كرامي وباقي الأطياف السنّية...
وبطبيعة الحال، سيكون الانفتاح الحريري محكوماً بضوابط معينة، فلا يذهب سعد بعيداً في أي خيار محلي إلى حد استفزاز السعوديين، ولا يجعل اشتباكه مع «حزب الله» يصل إلى الحد الذي يجعل عودته إلى رئاسة الحكومة من «سابع المستحيلات»، خصوصا في ظل ما هو متداول بأن خياري وصول فرنجية (تفاهم باريس) أو ميشال عون (تفاهم معراب) يتقاطعان عند نقطة أساسية، وهي أن وصول هذا أو ذاك إلى بعبدا، سيعيد فتح أبواب السرايا الكبيرة أمام سعد الحريري، إلا اذا أشهر «الفيتو» بوجهه أحد اللاعبين الأساسيين محلياً أو إقليمياً.
وليس سهلاً على رئيس «تيار المستقبل»، بعدما أحيط غيابه الطويل بهالة الأمن، أن «يخاطر»، فيطل على التوالي على جمهوره في الطريق الجديدة والبقاع الأوسط وعاصمة الشمال، وهو وعد باقي «المنسقيات» بإطلالات قريبة، خصوصاً من صيدا، على أن يلبي الدعوة إلى «مواعيد مسيحية» (مثل بكفيا وبنشعي)، تنسجم إلى حد كبير مع إطلالته المسيحية الأولى من بوابة زحلة.
صحيح أن الواجب الاجتماعي في صلب زيارة ميريام سكاف وريثة رئيس «الكتلة الشعبية» الراحل الياس سكاف، لكن «النكاية السياسية» لم تغب عن ذهن زعيم «14 آذار» الذي لم يهضم «فعلة» سمير جعجع.. ولن يهضمها برغم إلحاح السعوديين، وما سيعيد التأكيد عليه يوم الخميس المقبل مع الزميل مرسيل غانم من عناوين حول وحدة «14 آذار» (؟) وخياراتها السياسية والسيادية التي لم تعد تقنع معظم هذا الجمهور.
وما دامت رسالة تفاهم معراب للأقربين والأبعدين أن المعادلة المسيحية ستكون محكومة في الاستحقاقات الرئاسية والبلدية والنيابية المقبلة بتحالف «الثنائي الماروني»، تحت طائلة الذهاب نحو خيارات سياسية «أكثر جذرية» (المناداة باللامركزية السياسية والادارية والمالية الموسعة)، فإن رسالة سعد الحريري كانت واضحة أمس، ومن عاصمة الكثلكة، بأنه حيث يملك القدرة والأصوات والتحالفات (نموذج آل سكاف و «الكتائب» والعائلات)، كما في زحلة والقضاء، فإنه لن يتردد في «تأديب» الآخرين!
ولعل نقطة الضعف الأبرز في حركة الحريري الداخلية، أنه لا يرتكز على دعائم وخيارات سياسية ثابتة، بل يحاول تكييف تحالفاته وعلاقاته راهناً تبعاً لأوضاعه المادية التي لا يبدو أنه سيكون مكتوباً لها أن تتبدل جذرياً في المدى المنظور، وبالتالي يحاول تدوير الزوايا حيث يوجد «خصوم سياسيون مقتدرون» في استحقاق البلديات (نموذج حالة ميقاتي في طرابلس والشمال، وأيضا نموذج عبد الرحيم مراد في البقاع الغربي)، أما حيث ستكون المعارك عبارة عن «نزهة ربيعية»، فإنه لن يتردد في خوضها كما هي الحال في العاصمة بيروت، أما صيدا، فإن ميزتها تكمن في قرار رئيس «التنظيم الشعبي الناصري» أسامة سعد الجريء بقطع الطريق على أية محاولة للتفاهم مع آل الحريري في الانتخابات البلدية!
ويسجل للحريري أنه أعاد الى حد كبير لمّ شارعه، مستفيداً من إرث الدم ومن «كاريزما» متصاعدة (كاد بعض شباب «تلفزيون المستقبل» يحملونه على الأكتاف برغم أنهم لم يقبضوا رواتبهم منذ ثمانية أشهر)، وأثبت أنه قادر على بث دينامية معينة وخلط بعض الأوراق السياسية وإتقان بعض «الحرتقات» بفضل خبرة شخصية تتعزز من جهة، وبفضل أدوار بعض المستشارين ممن يضعون بتصرفه خبرات أتقنوها في زمن والده الشهيد وخصوصا من رحم علاقتهم بعدد من رموز «حقبة الوصاية» من جهة ثانية!
وبرغم الاحتقان المذهبي، فإن جولات الحرب العشرين المنطوية في طرابلس وحالة أحمد الأسير الغابرة.. وما تخلل هذه أو تلك من حمل رايات لـ «النصرة» أو «داعش» في شوارع طرابلس وعكار والبقاع الغربي وصيدا.. وأيضاً في بيروت (الطريق الجديدة)، كادت تفلت الأمور من أيدي «المستقبل» الممسك بالعديد من مفاصل السلطة، وخصوصا وزارة الداخلية، فكان أن وجد نفسه مضطراً لمواجهة تلك الحالات التي ترعرعت في فيء التحريض المذهبي على مدى عقد من الزمن.
الأكيد، أن البيئة السنية التي لفظت مشاريع «الإمارة» في عاصمة الشمال في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وساهمت في مواجهة «فتح الإسلام» في التسعينيات، وغطت الجيش في القضاء على ظاهرة أحمد الأسير وكل المجموعات الإرهابية في عرسال وطرابلس وباقي أقضية الشمال، لا تستطيع أن تحتضن «إمارة» جديدة أو «أميرا» جديدا.
مجدداً، أهلاً بسعد الحريري، وعسى أن يساعد حضوره في محاولة تنفيس الاحتقان المذهبي، إلا إذا كان هدفه فقط لفت انتباه من يمسك بختم «الديوان»، حتى يفرج له عن أموال محتجزة ومعها عن سياسات وتوجهات عقيمة لا بل صارت من الماضي، وعندها يصح القول العربي المشهور: «ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!