تساءل الكثير من متظاهري النجف الأشرف في اليومين الماضيين، عبر منشورات لهم أو رسائل على الخاص، عن الموقف من تظاهرات التيار الصدري التي ستخرج اليوم الجمعة..

وأود هنا أن أبين وجهة نظري الشخصية التي لا تعبر بالضرورة عن آراء زملائي المتظاهرين الآخرين: ١

- منذ أن بدأت بوادر التغيير في الموقف الرسمي للتيار الصدري من قضايا الفساد، تتتابع وتتعالى مع بدء التظاهرات في ٣١ تموز من العام الماضي.. متدرجةً من الكلام العمومي إلى التشخيص ثم إلى التبرؤ من المشتبه بفسادهم من عناصر التيار ثم إلى طرح مشاريع متتالية لغرض الاصلاح أو الغيير.. أقول: منذ أن ظهرت هذه البوادر كان في القلب هاجس السؤال الآتي: كيف نضمن أن يكون التيار الصدري صادقاً في هذا كله؟ هل يكون هذا خطة محكمة لإنقاذ الدين السياسي في العراق وقد أثبت فشله المريع؟ هل هذا التفاف على مطالب الناس من جهة سياسية لديها مئات المسؤولين بدرجات مختلفة في الدولة وعدد كبير منهم تدور حوله شبهات فساد؟ أيمكن أن يكون هذا كله محاولة لتفتيت التظاهرات وصوت الاحتجاج ضد الفساد والفشل والمحاصصة؟ … إلى آخر ذلك من أسئلة وجيهة ومقلقة. في مقابل هذه الأسئلة كانت تنيع في النفس أسئلة أخرى: ماذا لو كان السيد مقتدى الصدر جاداً ومخلصاً في دعوته ومخططاً بدقة لما يحدث؟ ماذا لو كان الصدر قد عرف عن كثب مخاطر التفرج على التظاهرات كما يفعل قادة الجهات السياسية المشاركة بالسلطة اليوم.. ثم قرر هو ونفر مخلص وصادق ونزيه من قيادات التيار أن يشاركوا بالإنقاذ؟ ألم يحفظ لنا التاريخ مآثر أناسٍ - رموز فهموا مخاطر أن يكونوا داعمين للفساد والسلطة الغاشمة وتراجعوا عن هذا الدعم؟ هل ينبغي لنا التشبث بأسئلة النيات ونترك تغيرات الفعل التي أخذت تطرأ على مسار التيار في الشهور الستة الأخيرة؟ ماذا لو كان الأمر كله عبارة عن صحوة ضمير حقيقية؟ وبين هتين المجموعتين من الأسئلة كانت النفس تتامل وتقلق ولا تعرف اتخاذ القرار. ٢

- منذ العام ٢٠٠٣ حتى الآن، تنامت الحساسية والريبة والضعف الشديد بالثقة بين نمطين من التفكير في العراق: النمط الأول يرى وجوب إبعاد الدين عن العمل السياسي، مستنداً على مخاطر خلط المقدس بما هو متغير القيم من الإيجاب إلى السلب بحسب الوضع، وهذا يُضعف القدرة على الرقابة والنقد والمحاسبة ومن ثمّ يضعف الدولة برمتها ويفتح الأبواب لاستغلال مشاعر الناس البسطاء لتمرير صفقات الفاسدين والفاشلين. وكانت المرجعية العليا في النجف، وبالذات مرجعية السيد السيستاني تميل باستمرار إلى الخشية من الوصول إلى هذا الوضع، ومن ثمّ كانت تحذر دائماً من أن يكون لرجل الدين عمل سياسي في العراق وتدعو اتباعها إلى عدم الدخول في ترّهات السياسة ودهاليزها. وقد عانينا بشدة طوال سنوات مضت من ضعف قدرة المرء على تأشير فساد رجل دين يعمل بالسياسة، أو تناول فشله، بسبب أن اتباعه - كائناً من كان- سيتحدثون في النقاش عن "شخصيات مقدسة أو بالأحرى عن ملائكة لا تخطئ، وإن أخطأت فلا تُحاسب" في حين سيتحدث الناقدون وذوو التفكير المفتوح عن "بشر" يمكن ان يخطأوا، ومن ثمّ يمكن محاسبتهم. وكان الوضع بين هذين النمطين من التفكير يميل باستمرار إلى الفريق الأول، فريق الملائكة، بسبب نوعية التفكير العراقي الشعبي، الذي يميل دائماً إلى الشحن العاطفي الزائد، وإلى نوعية الثقافة السائدة وخصوصية مرحلة ما بعد ٢٠٠٣.

لكن الكلمة النهائية في مثل هذا السجال -كما يعلمنا تاريخ الأمم- لا بد ان تكون من نصيب الواقع نفسه. وقد رأينا رأي العين كيف انهار الواقع العراقي بسبب الفساد وشلل مفاصل الدولة بسبب أن الأحزاب التي تسيّر الدولة هي أحزاب "دينية" عملت على أن تشيع فكرة "عدم محاسبة الملائكة" لتحمي مصالحها وتمرر مخططاتها الفئوية الضيقة وهكذا صار النخب السياسية فوق القانون، واصبحت الدولة بسبب ذلك نهباً للإرهاب الذي يعتمد جوهرياً على فساد هذه النخب، وأصبح البلد على مرمى حجر من السقوط لولا عناية الله وتضحيات شبابنا من القوات الأمنية البطلة وقوات الحشد الشعبي ومواقف المرجعية العليا الساندة لصوت الشعب.

ولهذا كله، وبضغط معطيات الواقع بدأ تفكير الفريق الثاني "فريق البشر"، أي التفكير الواقعي الحر، يتنامى في المجتمع العراقي في الآونة الاخيرة، وظهرت بوادر حقيقية له هذا الاتجاه في شرائح المجتمع المختلفة ولاسيما بين الشباب. حتى حصلت تظاهرات السبعة الأشهر المستمرة الآن، فسقط عن الفاسدين التقديس، ووجدوا انفسهم بلا حماية "رمزية" اعتادوا عليها طوال السنوات الماضية.

أصبحنا نسمع بوضوح هتافات ضدّ رموز كانت حتى قبل أقل من عام "عصية" على النيل والسخرية والهتاف ضدّها، بغض النظر عن موقفنا منهم أو من الهتاف ضدّهم. وهكذا أصبح الشعب يشعر بأهمية أن يكون حراً، لا بالشتم والسباب الذي نرفضه، لكن بما تحت هذا الشتم من قوة شعور بالشجاعة أمام الظالمين واتخاذ الموقف ضدّهم، وهذا ما نؤيده. ٣- كانت الاحتجاجات والتظاهرات سبباً ونتيجة في آن واحد لظاهرة شيوع التفكير بإبعاد الدين عن العمل السياسي، وظهور نسبة كبيرة من المجتمع لا تريد الاستمرار بهذا الربط المفصلي بين الدين والسياسة بسبب التجربة المريرة الحالية، على الرغم من محاولات التشويه المستمرة لهذا النوع من التفكير بدعوى انه "يحارب الدين" أو "يحارب موقع المرجعية في المجتمع" أو أنه "صادر عن أناس ملحدين وكفرة" أو أنه "يسعى لإشاعة ثقافة الإلحاد والعري".. إلى آخر ذلك من التشويهات التي لا تزال حتى الآن، بلا أي معطى ولا أي سند واقعي. لكن في خضم هذا الموقف المتنامي لرأي الشعب، ظهر السيد مقتدى الصدر على مسرح هذه الاحداث بمشروع جريء، يتناغم مع هذا المسعى العام، لكن بصياغة أخرى، لا تقول بإبعاد الدين عن السياسة، وأظن انها لن تقول هذا القول في المدى القريب والمتوسط، ولكن بصياغة تستهدف عموداً من أعمدة الخراب في العراق، تلك هي المحاصصة الحزبية. وفي هذا الموضع من هذا المنشور لا بدّ لي أن اتذكر رسالتي المفتوحة في وسائل الإعلام التي وجهتها إلى السيد مقتدى الصدر في شهر آب الماضي، بعد أيام من التظاهرات، وبالذات بعد ان دعا إلى تظاهرات مليونية، وقلت فيها اننا ننتظر من سماحته أن يتخذ موقفاً هو بحساب الواقع والتاريخ أشد وطأة على الفساد والمفسدين من تسيير تظاهرة مليونية، تلك هي: انسحاب التيار الصدري من نظام المحاصصة في الحكومة، وسعيه إلى تفتيت هذا النظام القاتل.

والحق إن ما فعله الصدر الآن هو تجسيد حقيقي لما يريده الواقع العراقي: انهاء المحاصصة والقضاء عليها، وجعل تمثيل الاحزاب في الدولة مقتصراً على وجودها في مجلس النواب، تشريعاً ورقابةً ونقداً لعمل الحكومة وربما حتى إقالة لها، أما الحكومة نفسها فيجب ان تكون بأيدي متخصصين من خارج العمل الحزبي وغير ممثلين من قريب أو بعيد لحزب من الأحزاب، ولهذا تكتسب دعوة الصدر الحالية لتشكيل حكومة تكنوقراط خارج المحاصصة أهميتها في كونها نابعة من كتلة سياسية كبيرة ممثلة في الدولة، ولهذا أيضاً تكتسب تظاهرات الصدريين الداعمة لهذا المسعى أهميتها أيضاً، ويكتسب التنسيق معها أهميته، لاسيما أن التحرك الصدري الأخير صاحبه عملية إعلان تبرؤ من بعض الرموز الصدرية التي تدور حولها شبهات فساد، وهو إعلان كان له مفعوله التعبوي للزخم المتعاطف مع التحرك الصدري الأخير شئنا أم أبينا. ٤- بقيت أسئلة النيات التي تشيع عند المتابعين والمهتمين الآن، بغض النظر عن موقفي الشخصي منها: هل إن مسعى السيد مقتدى الصدر الآن ليس فيه نيات مبيتة خاصة بتياره؟ هل لإيران دور في هذا كله؟ وما هذا الدور؟ ما العلاقة بين إعلان الصمت السياسي لمرجعية السيد السيستاني قبل أسابيع وظهور مبادرة الصدر بعد الصمت بأيام؟ هل ينوي الصدر من هذا كله الإطاحة بخصوم محددين؟ من هم؟

وهل ستتغير خارطة الخصوم وشخوصهم في حال تغيرت معطيات الواقع بطريقة لم يتوقعها الصدر نفسه؟ .. وبالطبع إن الإجابة عن هذه الأسئلة لن يتم عبر الاستنتاجات وحدها وإنما عبر ما يعكسه الواقع نفسه من أحداث. وفي هذه الفكرة بالضبط تظهر مشكلة السؤال عن الزمن، هل سنعرف الحقائق بعد ان يكون الوقت قد فات لتدارك ما يمكن تداركه؟ ٥- إلى أن تُظهر الأحداث حقيقة الموقف الصدري يكون علينا - بحسب رأيي المتواضع- أن نكتفي بالتعامل مع الفعل المعلن.. وهو حتى الآن يقول إن التيار الصدري "أعلن" تنصله من نظام المحاصصة، ودعم محاسبة الفاسدين حتى أولئك الذين فيه، وعلينا نحن أصحاب تظاهرات الشهور السبعة الماضية، الذين تحملنا وقاسينا الكثير من أجل إبقاء صوت الاحتجاج مستمراً وهادراً، علينا أن نتعامل مع هذا الإعلان على أنه فرصة لإحداث شرخ في جدار الكتل السياسية "الكونكريتية"، ولهذا لا اجد حرجاً من التنسيق المباشر مع التيار لإخراج تظاهرات موحدة، والتعامل معه (أي الإعلان) في ظرف الوقت الحالي في الأقل على أنه إعلان حقيقي وصادق، فإن ثبت هذا للجميع كان خيراً لنا جميعاً وللعراق كله، وإن لم يثبت لا سامح الله، فإن لكل حادث حديث. أقول هذا وكلي أمل وعيون مفتوحة ويقظة أن يكون مشروع السيد مقتدى الصدر متجهاً بصورة حقيقية ومخلصة نحو تغيير الأوضاع بلا رجعة وبلا أهداف خاصة، وأن يكون بالإسهام والتنسيق مع متظاهري الساحات الحاليين، على قلتهم، فليس كلّ قليل قليل، وليس كل كثير كثير، مع الاحترام للجميع. وأقول هذا أيضاً وأنا أتوقع ان بعض عبارات هذا المنشور قد تزعج جمهور التيار ومحبيه، لما قد يراه فيها من تشكيك، لكن الحق يقال أن خراب البلد ترك تأثيره العميق في نفوسنا، حتى لم نعد نثق بأي مشروع يقدمه أحد صانعي دولة ما بعد ٢٠٠٣ لإنقاذنا، حتى تثبت سلامة نياته، فاعذرونا وما في القلب والروح من غيض مسبق أبداً، ولله الحمد. والعراق وحب العراق والخوف على العراق.. من وراء القصد

فارس حرام