يعبّر بيان «كتلة الوفاء للمقاومة»، أمس، بشأن قرار مجلس التعاون الخليجي تصنيف «حزب الله» بأنه «منظمة إرهابية»، عن قراءة حزبية هادئة: «هو قرار طائش عدواني مُدان.. يتحمل النظام السعودي مسؤولية صدوره وتبعاته، وهو يتلاقى في شكله ومضمونه مع توصيف العدو الإسرائيلي لحزب الله».
لم يكن الإعلان السعودي مفاجئاً للحزب ولا ما جرى في مؤتمر وزراء الداخلية العرب أو ما سيجري في القمة الإسلامية الاستثنائية الخامسة بشأن فلسطين يومي الأحد والإثنين المقبلين في العاصمة الإندونيسية، ولا بعدها في القمة العربية المقبلة وغيرها من المنتديات العربية والإسلامية.
منذ أن بدأت ترتسم معالم التسوية السياسية في سوريا، خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي، كان الهاجس الذي يقض مضاجع «حزب الله» يتمحور حول ما يمكن أن يقدم عليه السعوديون والأتراك في محاولة من الإثنين معاً أو من أحدهما للتعويض عن فشل كل «مشروعهما السوري». وُضعت كل الاحتمالات على الطاولة، وكان من ضمنها أن يلجأ السعوديون الى محاولة إلزام الخليجيين جميعاً بقرارات لا تتوقف فقط عند حد توصيف «حزب الله» أنه «منظمة إرهابية».
النقطة الثانية وربما الأساس تتمحور حول عدم وجود ضوابط للصراع الجاري على السلطة في السعودية بين «المحمديْن» (بن نايف وبن سلمان)، فإذا كانت «المملكة» نفسها تدفع في سياستها وأمنها ونفطها وموازنتها وخصوصاً العسكرية، أثمان هذا الصراع المفتوح على مصراعيه، فكيف الحال مع دول الخليج المغلوبة على أمرها، والتي عبّرت في مناسبات مختلفة، أمام مسؤولين عرب ودوليين، عن وجود إرادة سياسية لديها بإقامة علاقات حسن جوار مع جارتهم الخليجية إيران.. ولكن.
باستثناء البحرين، وبعض مفاصل الإمارات، ندر أن تجد دولة خليجية توافق السعودية على خروجها عن أطوارها. هو مسار بدأ مع تسلم الملك سلمان العرش، أي نجاح ابنه ولي العهد الثاني بالقبض على ختم الديوان الملكي.. حتى إشعار آخر.
برزت في مرحلة معينة مناقشات سعودية أمام مسؤولين دوليين: هل نُبرم صفقة مع إيران ويكون ثمنها استقرار منطقة الخليج.. وحسم معركة العرش؟
لا تبدو الظروف ناضجة لمثل هذه الفرضية، بسبب احتدام الصراع بين «المحمديْن». بلغ النقاش سؤالاً ثانياً: هل يمكن لـ «المواجهة» (يتحدث عنها وزير داخلية لبنان باستمرار) أن تفرض موازين قوى جديدة تجعل السعودية تجلس الى طاولة تسويات الإقليم؟
المعضلة الكبرى حالياً افتقاد المملكة لـ «الضوابط»، وتحديداً «الحكمة» التي لطالما ميّزت سياسات من توالوا على العرش منذ زمن تأسيس الدولة حتى يومنا هذا. هذه النقطة، هي مبعث القلق عند أوساط دولية وإقليمية، خصوصاً أنها يمكن أن تؤدي الى انزلاق السعودية الى مطارح خطرة، سياسياً وأمنياً ومالياً، بدليل التخبط في ملفات النووي الإيراني واليمن وسوريا والعراق ولبنان.
ولا يكون عاقلاً من يقول إن أحداً من حلفاء السعودية في لبنان يمكن أن يجد تفسيراً لتشجيع الرئيس سعد الحريري على العودة الى لبنان، قبل أن ترمى بوجهه، وبشحطة قلم، خطوة من نوع إلغاء المليارات الأربعة لتسليح الجيش وباقي المؤسسات الأمنية.
وما يسري على هذا القرار، يسري على قرار السعودية وضع قناة «المنار» وعدد من أسماء المحسوبين على «حزب الله» على لائحة الإرهاب، وذلك في عز مبادرة الحريري الهادفة إلى ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.
وما يسري على لبنان، يسري على اليمن، عندما نجد أن حليف السعودية الأول (علي عبدالله صالح) صار عدوها الأول، وعندما نجد مدناً ومحافظات تسقط بيد حلفاء السعودية اليوم، وتصبح معقودة النصاب لـ «القاعدة» وأخواتها في اليوم التالي. ثم من يملك تفسيراً للاندفاعة السعودية لقتال «داعش» في سوريا، فجأة، وعبر قاعدة أنجرليك التركية؟ ألا يصح طرح سؤال بريء من نوع أن «داعش» موجود في العراق منذ سنة ونيف، وهو يشكل تهديداً للحدود السعودية، فكيف شكلت تحالفاً إسلامياً دولياً لقتاله في سوريا ولم تقرر قتاله في العراق؟ وما معنى إعلان قيادة «حزب الله» عن وجود أدلة تظهر تورط الأمن السعودي في تفجيرات حصلت في لبنان والعراق واليمن.. وســوريا؟
الفاتورة بين «حزب الله» والسعوديين مفتوحة منذ زمن تأسيس المقاومة في بداية الثمانينيات. الدليل أن «البصمات السعودية» كانت واضحة في تمويل جريمة محاولة اغتيال المرجع السيد محمد حسين فضل الله في العام 1985، عندما كان يُطلق عليه لقب «المرشد الروحي لحزب الله». وقتذاك، كانت أهداف الجريمة التي أوقعت مئات الضحايا في حي بئر العبد الشهير، أميركية ـ إسرائيلية، لكن بأدوات لبنانية وعربية، وكان المقصود إنهاء حالة كاملة، بدليل ضخامة الانفجار الذي دمر منطقة بكاملها.
مرت العلاقة بين السعودية و «حزب الله» بمحطات كثيرة، وبرغم التباينات في محطات عدة، تمكن «الناظم السوري» من ترسيم حدود العلاقة بين «الحريرية السياسية» والمقاومة، والدليل تجاوز مراحل عدوان تموز 1993 ومحاولة إدخال الجيش الى منطقة عمل «اليونيفيل» في السنة نفسها وعدوان «عناقيد الغضب» في ربيع العام 1996، وصولاً الى «إنجاز التحرير» الذي لطالما قيل لقيادة «حزب الله» إنها ستدفع ثمنه من رصيدها العربي والإسلامي عبر محاولة «شيطنة» المقاومة ودمغها بـ «الإرهاب».
ولطالما أبرزت تلك المحطات وجود إرادة لدى الطرفين بـ «التعايش» وعدم قطع خطوط التواصل، حتى أن عدداً من قادة الحزب زاروا السعودية بعد الرابع عشر من شباط 2005، في إطار المساعي الهادفة الى لمّ الأزمة السياسية التي نشأت بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
وبرغم قرار «حزب الله» بتجاوز «مرحلة حرب تموز»، وما لمسه في كل أيامها الـ 33 من تآمر عربي على المقاومة في لبنان، وذلك الى حد أن الإسرائيلي عندما قرر في الساعات الأخيرة وقف المعركة، مخالفاً بذلك إرادة حكومات عربية وسفراء عرب في الأمم المتحدة، جرت محاولات عربية للتعويض على تل أبيب عبر إصدار قرار تحت «الفصل السابع»، لكن الأمور سارت على عكس ما يشتهي هؤلاء.. واضطر الإسرائيليون للموافقة على قرار دولي شكّل صمام أمان للاستقرار والهدوء اللذين ينعم بهما الجنوب اللبناني منذ عشر سنوات حتى الآن.
وليس خافياً على أحد أن أزمة سوريا شكلت منعطفاً في العلاقة، اذ إن الطرفين انخرطا عملياً في قتال غير مباشر: «حزب الله» عبر انخراطه دعماً للنظام.. والسعودية وحلفاؤها في لبنان في دعم المجموعات المعارضة منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة، حتى أن بعض الوثائق الأوروبية بيّنت أن بعض قادة الأمن في لبنان كانوا يحاولون منذ العام 2005 إنشاء خلايا مسلحة للمعارضة السورية في لبنان!
وإذا كان القرار السعودي يطرح أسئلة كثيرة، أبرزها مدى تعبيره عن يأس خليجي من مستقبل المسار السوري، في ضوء الإرادة الأميركية ـ الروسية الجدية بمحاولة التوصل الى ملامح تسوية، قبل أن يبدأ العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن معظم المناقشات الدولية التي أعقبت قرار السعودية بإلغاء الهبات المالية للبنان، أبرزت مجدداً تعاظم الحرص الدولي على استقرار لبنان، حتى أن الوفد النيابي اللبناني الذي زار واشنطن برئاسة النائب ياسين جابر، في النصف الثاني من شباط المنصرم، لمس تقبلاً أميركياً للأمر الواقع المتمثل بانخراط «حزب الله» في المعركة ضد التنظيمات الإرهابية على أرض ســوريا.
بهذا المعنى، يصبح القرار السعودي عبارة عن احتفالية كبرى لقرار متخذ سلفاً، إذ إن أحداً لا يجرؤ في الخليج على إشهار انتمائه، لا إلى «حزب الله» ولا إلى طائفة معينة، فكيف في ضوء القرار الذي من شأنه أن يقونن ويسهّل الخطوات التي اتخذتها بعض دول الخليج، منذ سنوات ضد اللبنانيين، لكن هذه المرة بذريعة القرار الذي يسمي «حزب الله» بأنه «منظمة إرهابية».
وللسعوديين أن يدركوا أنه ندر أن يجدوا عائلة في الجنوب أو الضاحية أو البقاع وحتى في بعض بلاد جبيل وكسروان، إلا وأحد أفرادها مرتبط بعلاقة تنظيمية أو نفعية مع «حزب الله» أو إحدى مؤسساته مباشرة، ناهيك عن الخدمات والمساعدات المالية والخدماتية والاجتماعية والصحية التي يتلقاها عشرات الآلاف من الذين يصنفهم الحزب بأنهم «بيئته الحاضنة»، وبالتالي، كيف ستتعامل دول الخليج مع طائفة بكاملها، وهل ستبادر الى طرد كل لبناني على صلة ما بهذه «البيئة»، وهل يتطور الموقف لاحقاً الى حد مصادرة أملاك اللبنانيين وأموالهم، سواء الذين يصلون ليلهم بنهارهم في دول الخليج ولهم أخوة أو أقرباء منظّمين بالحزب، استناداً الى «قانون مكافحة الإرهاب» الخاص بالدول الخليجية، وفي حال حدوث ذلك، كيف ستتعامل الحكومة اللبنانية مع هذا الوضع المستجد، وخصوصاً أنه لا يوجد تعريف عالمي موحد للإرهاب، وهل ستعتبر دول الخليج تواصل اللبنانيين مع أقرباء لهم من «حزب الله»، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هو «تواصل مع الإرهاب»، وبالتالي اتخاذ عقوبات قانونية وقضائية بحقهم؟
«لا بد من صنعاء مهما طال السفر». بهذه العبارة يختصر قيادي حزبي لبناني كبير المآل الذي ستؤول إليه الحرب السعودية على لبنان.. والمقصود منها جلوس إيران والسعودية في نهاية المطاف الى طاولة واحدة برغم أن الرياض أقفلت حتى الآن كل محاولات الوساطة مع طهران بوجه الأميركيين والروس والفرنسيين والألمان والباكستان وسلطنة عمان!