أظهرت نتائج الإنتخابات الإيرانية الأخيرة المخصصة لمجلسي الشورى والخبراء تقدما كاسحا لمعسكر الإصلاحيين المقربين من الرئيس الإيراني الحالي روحاني والسابق رفسنجاني.
وشكلت هذه الإنتخابات صدمة للمعسكر المحافظ الذي لم يكن ليتوقع هكذا نتائج بعد حملة المضايقات والتهميش التي طالت مرشحي الإصلاحيين قبل الإنتخابات ومنهم حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية السيد حسن الخميني.
وبالطبع هذه النتائج ستترك تأثيراتها على السياسة الداخلية والخارجية لإيران على المدى المنظور بعكس التشاؤم الذي يبديه بعض المراقبين والناتج عن أن الصلاحيات الكبرى في نظام ولاية الفقيه هي بيد السيد علي الخامنائي والمعادلات السياسية الداخلية محكومة بميزان للقوى يفرض توازنه موقع ودور الحرس الثوري الإيراني.
لكن بالشكل وقبل الدخول في مضمون الموضوع لا بد من التنويه باللعبة السياسية الديمقراطية الإيرانية في منطقة تغلي بالحروب والمعارك بغض النظر عن بعض التجاوزات والإرتكابات. فالشعب الإيراني أظهر درجة عالية من الإيمان بالتغيير السلمي لسياسات الحكومات السابقة معتمدا على أدوات الديمقراطية وفي طليعتها الإنتخابات.
وقد سجلت النسب الكثيفة للمشاركين في عملية الإقتراع والتي وصلت لحدود 60% رسالة واضحة لمن يعنيهم الأمر في الداخل الإيراني بأنه هناك عدم رضى عن سياسة المحافظين السابقة والتي أدت إلى أزمات إقتصادية وسياسية وتورطات عسكرية وديبلوماسية مع الخارج بعكس ما يحاول البعض في لبنان والمنطقة من المتحالفين مع إيران تصوير المشهد على أنه رسالة للخارج.
وقد يسأل خبيث عن أي خارج يتكلم المحافظون وإيران خارجة من إتفاق نووي تاريخي مع دول الغرب وعلى رأسهم " الشيطان الأكبر أميركا".
فهذه الدعاية إنتهت صلاحياتها على الأقل في الداخل الإيراني الذي يترقب صفقات إقتصادية ضخمة مع الغرب وفتح أسواقه أمام الشركات الأميركية والأوروبية بعد أن ضاق ذرعا بالحصار المفروض من قبل الغرب لمعاقبة إيران على سياساتها في المنطقة.
ولندخل الآن إلى مضمون الإنتخابات، فمن يراقب البرامج الإنتخابية للإصلاحيين يلاحظ أنها تتضمن بنود جريئة نحو إصلاح العلاقات الديبلوماسية مع العرب والغرب ولا يمكن المرور مرور الكرام على تصريح وزير خارجية إيران ظريف من ميونيخ من أسبوعين عندما تكلم عن مصالح مشتركة للسعودية وإيران في سوريا والمنطقة ووصف السعوديين بالأشقاء.
فلدى الإصلاحيين نية جدية نحو إصلاح العلاقات الخليجية الإيرانية للبناء عليها لاحقا نحو حلحلة ملفات المنطقة من اليمن إلى لبنان. فالإصلاحيون الذين إستطاعوا إنجاز الإتفاق النووي وحل معظم مشاكل إيران مع الغرب لن يوفروا فرصة لإصلاح علاقتهم مع حلفاء أميركا في المنطقة وفي طليعتهم السعودية لأن إبقاء التوتر على ما هو عليه سينعكس سلبا على الداخل الإيراني أيضا.
فالأموال المفرج عنها وفي حال إستمر التوتر في المنطقة ستذهب بإتجاه دعم ميزانية التسلح العسكري على حساب سياسات التنمية والنهوض الإقتصادي وخلق فرص العمل وهذا ما يعيد إيران إلى المربع الأول أي مربع الأزمة الإقتصادية وسيفرض عليها مراقبة للتحويلات المالية إذا ما وصلت لجهات خارجية كحزب الله والحوثيين والحشد الشعبي العراقي وهذه قوى في معظمها مصنف على أنها إرهابية ما سيضطر الغرب إلى إعادة فرض عقوبات جديدة كما هددها سابقا عندما أجرت التجربة الصاروخية منذ أشهر.
لذلك سيجد الإصلاحيون أنفسهم مضطرين وتحت وقع الضغوط الإقتصادية الداخلية إلى تغيير جذري في السياسات المحافظة السابقة لبناء مستقبل أفضل لإيران إختصره الإصلاحيون بكلمة "الأمل" كشعار إستخدموه لحملتهم الإنتخابية.
وهذا لا يعني أن الإصلاحيين سيتخلوا عن حلفائهم في المنطقة لكن سيعتمدون سياسة جديدة ومغايرة تتناسب مع الظروف الجديدة والواقع السياسي الإيراني الجديد بحيث أنهم سيتحركون لتقديم مقترحات تتضمن مصالح حلفائهم وتتضمن مصالح الآخرين على قاعدة:" نكسب ويكسبون" بعكس قاعدة المحافظون:" نكسب ويهزمون"، فالسعودية في عهد الملك سلمان أثبتت أنها قادرة على التصدي وخلق مشاكل لإيران في المنطقة ما كانت الأخيرة لتتوقعها وهذا ما يبرر اللهجة العالية وصولا إلى التجريح الشخصي الذي إعتمده حلفاء طهران في لبنان والمنطقة إتجاه السعودية في الآونة الأخيرة.
لكن تطرح إشكالية في هذا المجال وهي موقف الحرس الثوري المرتبط بالولي الفقيه مباشرة. فهل سيرضى بسياسات الإصلاحيين المترقبة؟ خصوصا أن معظم حلفاء إيران في الإقليم مرتبطون عضويا ومباشرة بالحرس الثوري وولي الفقيه. وبالفعل هي إشكالية لكن تجربة الإتفاق النووي السابقة قد تعطي تصور عن ما قد يحصل. فالمحافظون ومن ورائهم الحرس الثوري وولي الفقيه ما كانوا ليرضوا بالإتفاق مع الغرب ضمن الشروط التي توصلت إليها الإتفاقية ولكنهم في الأخير وافقوا.
وافقوا لأنهم أدركوا مدى هشاشة الوضع الداخلي للنظام والخطر الذي يحدق به من الداخل خصوصا بعد أن زادت معدلات البطالة في الداخل الإيراني وإشتدت الأزمة الإقتصادية.
فبين أن يتمسك الحرس الثوري بسياساته الثورية والراديكالية في المنطقة والتي تؤدي إلى أزمة إقتصادية ومزيد من الحصار وربما إنهيار للنظام لاحقا وبين أن يساير الإصلاحيين ويقبل بالإنفتاح على الغرب وإفساح المجال لآفاق الحلول لقضايا المنطقة ما يضمن إستمرار النظام سيقبل بالخيار الثاني طبعا.
وهنا لا بد أن تقام تسوية ضمنية بين الإصلاحيين الذين لن يخاطروا أيضا بالذهاب إلى إشتباك داخلي مع الحرس الثوري وبين المحافظين الذين لن يكونوا مسرورين إذا رأوا أن عناد سياساتهم ستؤدي إلى إنهيار الهيكل على الجميع. لذلك من المستبعد أن تبقى سياسات طهران هي ذاتها كما كانت قبل الإنتخابات.
وما سيزيد من فرص التغيير هي النتائج المبهرة التي حققها الإصلاحيون في إنتخابات مجلس الخبراء وهو المسؤول عن إنتخاب ولي الفقيه ومراقبة سياساته. فالمجلس أصبح بيد الإصلاحيين وهو ورقة ضغط قوية وإستراتيجية كفيلة بإيصال مرشحهم لتولي صلاحيات ولي الفقيه الذي سيرث السيد علي الخامنائي والذي تفيد التقارير أن حالته الصحية غير مستقرة. لذلك صعق رئيس المجلس القضائي في إيران من النتائج وإتهم الإصلاحيين بالتنسيق مع الغرب لإيصال مرشحهم لولي الفقيه .ففرصة وصول رجل الدين الإصلاحي والقوي هاشمي رفسنجاني إلى مركز ولي الفقيه عالية جدا ما يقلب المعادلات الداخلية رأسا على عقب.
والحرس الثوري سيجد نفسه مضطرا للتأقلم مع المتغيرات فأي نية لديه للإنقلاب العسكري أو إيصال مرشحه الخاص عن طريق تزوير الإنتخابات لن تمر مرور الكرام وستواجه بربيع أخضر كالذي شهدته طهران سابقا بعد إنتخاب أحمدي نجاد للدورة الثانية والتي رافقها عمليات تزوير ضخمة.
لكن البعض إلى الآن يشكك في إزدواجية الإصلاحيين والمحافظين في إيران ويلصقونها بتهمة توزيع الأدوار وهذا بالطبع غير حقيقي لعدة إعتبارات أهمها وأوضحها أنها لو كانت لعبة توزيع أدوار فلماذا معظم قادة التيار الإصلاحي إما مسجنون أو مقتولون أو منفيون أو تحت الإقامة الجبرية كالسيد خاتمي ومير حسين الموسوي وكروبي.
ولماذا صحفهم تغلق وشبابهم يعتقل؟ ولماذا تزور الإنتخابات لمصلحة نجاد؟ ولماذا يتهم المحافظون الإصلاحيين بأنهم عملاء للخارج؟ فلكل هذه الإعتبارات والأسئلة لا بد من نفي هذه التهمة والقول أن الإصلاحيين والمحافظين في إيران هما رؤيتان مختلفتان للسياسة الإيرانية تحت مظلة النظام الإيراني المتمثل بولاية الفقيه.
لذلك سيحاول الإصلاحيون العمل على مسار الحلول والتسويات في المنطقة وسيتصرفون للمرة الأولى على أنهم أبناء الجمهورية بعيدا عن أدبيات الثورة. ولطالما حاول الإصلاحيون منذ أيام الرئيس خاتمي تقديم إيران على أنها جمهورية إسلامية للعالم وخصوصا للغرب فيما كانت طهران تمارس الثورة في الإقليم العربي. فأدبيات الثورة مغايرة لأدبيات الجمهورية.
والشعب الإيراني في الإنتخابات الأخيرة قال كلمته ومشى:" نعم" للجمهورية و " كفى " ثورة.