لم تعد سراً ولا خافيةً على أحد التعديات الكثيرة على الأملاك البحرية العامة على طول الشواطئ اللبنانية. وإذا كانت واحدة في مضمونها، إلا أنها تختلف بحسب حجم المخالفة ونوعها.
وفي حين تعتبر العاصمة بيروت مرتعاً للتعديات، والمحطة الأبرز لسلب الأملاك العامة وحجبها عن المواطنين من خلال الالتفاف على القانون والدستور، تظهر في بلدات الأطراف الساحلية شمالاً، كالمنية مثلاً، تعديات كثيرة على المشاعات أيضاً. وقد حولت الدولة اللبنانية مسألة "الملك العام المسلوب" إلى "عصا" تهزها في وجه فقراء البلدة كلما أرادت ترهيبهم وتذكيرهم بأنها موجودة، مقابل تغاضيها الدائم عن منحهم أدنى الحقوق، لاسيما استرداد ممتلكاتهم العقارية التي كانت تشغلها شركة "نفط العراق" قديماً.
تغض الدولة اللبنانية، المتمثلة بالأجهزة العسكرية والقضائية، الطرف عن مئات الفنادق والمقاهي المنشأة على أملاك اللبنانيين البحرية، والمملوكة من كبار المستثمرين وحيتان المال. بينما تسلط أجهزتها لمراقبة عدد من الصيادين المياومين ومحاسبتهم لإقدامهم على بناء "سنسول" في عرض البحر. وهذا يسلط الضوء على السياسة الاستنسابية في تطبيق القوانين التي تنتهجها الدولة في تعاطيها مع أبناء الشمال، وتكريسا لمبدأ الإهمال المعتمد تجاههم منذ عقود.
على امتداد الخط البحري في المنية تنتشر مجموعة موانئ صغيرة. وعلى الرغم من تعدد تسمياتها بين ميناء أحمد الخير، ميناء كاظم الخير، ميناء طبو، ميناء سعيد علم الدين..
يبقى المشهد واحداً يتكرر من مكان إلى آخر: أعشاب كثيفة وشاطئ رملي أسمر و"كشك" صغير الحجم تركن أمامه أعداد قليلة من السيارات. "تحتل" كل مجموعة من الأشخاص ركناً من الشاطئ. تستثمره صيفاً عبر استقبال العائلات الفقيرة التواقة للاستمتاع بمياه البحر. لا يدفع أفراد الأسرة رسم دخول للولوج إلى البحر، بل يقتصر الأمر على دفع ايجارٍ زهيدٍ في حال استخدام طاولة وكراسٍ. أما شتاءً فيقتصر الأمر على سهرات صغيرة لمحبي لعب "ورق الشدة". بعض "النافذين" طوروا مصالحهم على الشاطئ عبر بناء حجرات للاستحمام وتخصيص أماكن لركن السيارات، ما أدى إلى مضاعفة حجم المخالفات. وفي بعض الأماكن، تداخل التعدي على المشاع مع بعض التعديات على الأملاك الخاصة، وتحديداً في منطقة ذوق بحنين العقارية. تلك الحالة أنتجت تشنجاً بين أبناء المنطقة وصل إلى حد الاشتباكات المسلحة بين العائلات المتنازعة في كثير من الأحيان. وما عزز عدم القدرة على حلّ النزاعات وفق القانون وعودة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها، العشائرية التي لا تزال تسيطر على أبناء البلدة من جهة، وتواطؤ الأجهزة الأمنية مع الفئة الأكثر نفوذاً من جهة أخرى.
"عين البرج"
لـ"العين" فرادة استثنائية. تلك المنطقة المصنفة سياحية، عبارة عن عين متفجر في الأرض ينسكب شلالاً بمياه عذبة يمر وسط بركة عميقة وينحدر ليصب في البحر. أنشأ مالكو العقار من آل علم الدين مقهى في محيط البركة هو الأشهر في المنطقة، على الرغم من أن البناء تعدى على المشاعات الموجودة هناك. إلا أن "لفلفة" قضية التعديات التي كادت تطال أيضاً البناء العثماني السياحي القريب من العين كان مطلباً سياسياً وفق ما يكشف مصدر من اتحاد بلديات المنية لـ"السفير"، مؤكداً أن "ميناء عين البرج كان مركزاً لعمليات المقاومة الفلسطينية قديماً، وباباً لتهريب الأسلحة والأموال في البلدة".
ويشير المصدر إلى أنه "في فترة الحرب الأهلية نشطت عمليات تهريب البضائع والأسلحة من ميناء عين البرج بشكل غير مسبوق. ومع دخول القوات السورية إلى لبنان بات الميناء من أهم مراكز الاستخبارات في لبنان ما ضاعف الحاجة إلى ضبطه وحصره بالأعمال السياحية وتشجيع الاستثمار فيه لإعادة الاستقرار إلى البلدة".
في الإطار نفسه، يكشف المستشار القانوني عز الدين علم الدين أن "أحد المتمولين من أبناء البلدة قدم إلى المنطقة من إحدى دول الخليج طامحاً بإنشاء مشروع أكوا مارينا على طول الشاطئ في المنية، إلا أنه صُدم بحجم التعديات والتفلت القانوني الحاصل، ما عرقل تنفيذ المشروع، فخسرته المنطقة".
أراضي "الشلبة"
في الخامس والعشرين من نيسان العام الماضي قامت وحدات من قوى الأمن الداخلي التابعة لمخفر الشواطئ في الميناء بعملية مسح للمنطقة الممتدة من معسكر عرمان حتى مسجد المخاضة في المنية، أي الأراضي المعروفة بـ"أرض الشلبة".
حينها، قامت القوى الأمنية بتسجيل أسماء السكان وأصحاب الأبنية والمحال التجارية، طالبةً منهم الحضور إلى المخفر في اليوم التالي لمتابعة التحقيقات معهم، ملمحةً إلى أن "لدى الأهالي مهلة 15 يوماً لإخلاء مساكنهم قبل هدمها لأنها تندرج في إطار التعدي على الملك العام". بعد انقضاء عام كامل ما الذي حصل؟ انقضت مهلة الـ15 يوماً ولم يُطرد الأهالي ولم تُهدم البيوت، بل يكشف الناطق باسم أهالي الشلبة محمد الحواط لـ"السفير" أنه "تم استدعاء الأهالي حينها كإجراء روتيني يحصل بين الحين والآخر، ولم يوقع أي منهم على أي تعهدات مثلما روّج البعض، إنما تقرر ترك الأمور على حالها بانتظار التوصل إلى تسوية أوضاعهم ضمن تسوية شاملة لجميع المخالفات على الملك العام".
في الوقت نفسه، يرفض الحواط إدراج ملف أبناء "الشلبة" ضمن ملف التعديات على المساحات العامة، مستذكراً تاريخ القضية التي بدأت منذ العام 1936. إذ تُقسم ملكية الأراضي الممتدة على طول نحو مليون متر مربع من محلة دير عمار مروراً ببرج اليهودية وصولاً إلى وادي المخاضة بين ثلاثة أطراف: الدولة اللبنانية (مشاعات)، وبعض العائلات الطرابلسية (البكوات) وبعض العائلات المينياوية الميسورة.
وكان يلجأ بعض مزارعي المنية إلى استئجار الأراضي من العائلات الطرابلسية، وهو ما يصطلع على تعريفه بـ"ضمان الأرض" (أي يحصل المزارع على الحق بزراعة الأرض والتصرف بمحصولها مقابل مبلغ مالي يدفعه لمالك الأرض الأصلي). في العام 1936 تقدمت شركة "نفط العراق – IPC" بعروض لشراء الأرض بغية إقامة منشآت نفطية عليها، فرفضت غالبية المزارعين التخلي عن أرضهم. وعندما فشلت الشركة في استملاك الأراضي أصدرت الدولة اللبنانية قراراً باستملاكها جميعها للمصلحة العامة، وانتقلت من يد الأهالي إلى يد الشركة. لكن نتيجة لعدم استخدام الشركة الأراضي وفقاً لقانون الاستملاك، طالب أصحاب الحق باسترداد ملكيتهم، إلا أن الشركة رفضت وادعت الملكية بمرور الزمن. ومع توقف أعمال الشركة بسبب التوترات السياسية العربية، عادت الدولة اللبنانية واشترت الأراضي المذكورة، ونقلت ملكيتها بموجب المرسوم 784 والمؤرخ في 8-1-1965.
حصل ذلك من دون إبلاغ المزارعين باستعادة الدولة اللبنانية لملكية العقارات. وقد ساعد هذا التملك الصوري للدولة وقبولها به على تهرب الشركة من التعويض على أصحاب الحق. وبعد سلسلة اعتصامات وتظاهرات ولقاءات مع أصحاب الشأن، ووقوع أكثر من إشكال مسلح بين الأهالي والقوى الأمنية التي حاولت إخراج الأهالي بالقوة من أراضيهم، اتخذت الدولة اللبنانية قراراً يقضي بتأجير الأراضي لأصحابها مع الوعد ببيعها. واستناداً إلى القرار وبعد موافقة المزارعين وأصحاب العقارات، قامت لجنة مؤلفة من وفد من وزارة المالية ووفد من إدارة أملاك الدولة وأمن السجل العقاري في الشمال بتخمين العقارات بموجب محضر التخمين المسجل برقم 6516 والمؤرخ في طرابلس في العام 1973.
وقتذاك تقرر إنجاز عقود التأجير مع الوعد بالبيع لجميع العقارات المخمنة والمبيّنة أرقامها في محضر التخمين، أما العقارات غير المقبوض ثمنها فتقرر وجوب إعادتها إلى مالكيها أو إلى شاغليها من ورثتهم من دون أي مقابل. أما العقارات المتاخمة لثكنة عرمان والضرورية لحرم الثكنة، فأكد مجلس الوزراء في مذكرته المبلغة حينها إلى محافظ الشمال واللجنة الممثلة لأصحاب الحق تسوية الأوضاع مع أصحابها مادياً.
مضى أكثر من ثلاثين عاماً على صدور القرار من دون دخوله حيز التنفيذ. ويؤكد حواط أن "تلك الأراضي هي حق للأهالي وملكهم في الأساس، وهي مصدر الرزق الوحيد لهم، وبالتالي فإن خروجهم منها غير وارد"، مشيراً إلى أن "الدولة اللبنانية مطالبة بالتعويض على العائلات (قرابة 200 عائلة) بعدما حرمتها طيلة تلك السنين من استغلال أرضها أو استثمارها أو البناء عليها، كما أنها لم تُقدم هي (الدولة) على استغلالها والاستفادة منها خدمة للصالح العام".
( السفير)