كتب روبرت اف كينيدي الأستاذ الجامعي والناشط البيئي إبن السيناتور السابق روبرت كينيدي وابن شقيق الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، مقالا يستعرض فيه أسباب رفض العرب للتدخل الأميركي فى سوريا وتاريخ دسائس وكالة المخابرات المركزية الأميركية السي أي أيه في منطقة الشرق الأوسط من أجل التحكم بالنفط ومفردات الجغرافيا السياسية.
وفي هذه الصفحة نستعرض أهم ما جاء في مقال كينيدي الذي نشر على موقع مجلة بوليتيكو الأميركية.
بما أن والدي قد قتل على يد عربي فقد بذلت مجهودا لفهم تأثير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وتحديدا العوامل التي أحيانا ما تدفع إلى ظهور ردود أفعال متعطشة للدماء من قبل العالم الإسلامي ضد بلادنا. ومع تركيزنا على ازدهار تنظيم داعش والبحث عن مصدر تلك الوحشية التي قضت على أرواح الكثير من الأبرياء في باريس وسان برناردينو قد نريد النظر الى ما هو أبعد من التفسيرات المتعلقة بالدين والايديولوجية. وبدلا من ذلك يمكننا فحص الاساس المنطقي المعقد للتاريخ والنفط وكم عادة ما يلقون باللوم على ما قدمته أيادينا.
فسجل أميركا البغيض من التدخلات العنيفة في سوريا - والذي لا يعرف عنه الأميركيون إلا قليلا في حين يعرفه السوريون جيدا - مهد تربة خصبة «للجهاد الإسلامي العنيف» والذي حاليا ما يعقد أي رد فعل فعال من جانب حكومتنا لمواجهة تحدي تنظيم داعش. وطالما بقي الشعب الأميركي وصناع القرار غير مدركين لهذا الماضي فإن أي تدخل آخر من المحتمل أن يعقد الأزمة.
لقد اعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن «وقف إطلاق نار مؤقت في سوريا». ولكن بما أن نفوذ وهيبة الولايات المتحدة داخل سوريا محدودان ووقف اطلاق النار لا يشمل مقاتلين رئيسيين مثل النصرة وداعش فمن المحتوم أن تكون هدنة هشة على أحسن الفروض.
ويشابه ذلك قرار الرئيس اوباما بالتدخل العسكري في ليبيا حيث من المحتمل أن يقوي الراديكاليين بدلا من أن يضعفهم. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت في 8 كانون الاول 2015 في صدر صفحتها الأولى قصة عن قيام زعماء تنظيم داعش السياسيين ومخططي التنظيم الاستراتيجيين بالعمل على استفزازتدخل عسكري أميركي في ليبيا. حيث يدركون من خبرات سابقة ان هذا من شأنه أن يجتذب فيضاناً من المقاتلين المتطوعين وأن يغرق أصوات الاعتدال ويوحد العالم الاسلامي ضد أميركا.
ولفهم هذه الدينامكية نحتاج للنظر في التاريخ من وجهة النظر السورية وتحديدا بذور الصراع الحالي. من سنوات طويلة قبل أن يفجر احتلالنا للعراق في 2003 «الانتفاضة السنية» التي تحولت الآن لتنظيم الدولة الاسلامية، غذت وكالة المخابرات المركزية سي اي ايه «الجهاد العنيف» كسلاح فى الحرب الباردة وشحنت العلاقات الأميركية - السورية بأحمال مسمومة.
ولم يحدث ذلك بدون إثارة للجدل بالداخل. ففي تموز 1957 في أعقاب إنقلاب فاشل تحت رعاية سي اي ايه في سوريا، أثار عمي السناتور جون اف كينيدي إدارة الرئيس ايزنهاور وزعماء الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحلفاءنا الأوربيين بالقائه خطاب هام يؤيد حق الحكم الذاتي للعالم العربي وانهاء التدخل الامبريالي الأميركي في الدول العربية.
وخلال حياتي وتحديدا خلال رحلاتي الدائمة الى الشرق الأوسط ذكرني الكثير من العرب بذلك الخطاب باعتزاز بوصفه أوضح بيان عن المثالية التي يتوقعونها من الولايات المتحدة. كان خطاب كينيدى دعوة لان تعيد اميركا التزامها بالقيم العليا التي ساندتها بلادنا في ميثاق الاطلنطي أي التعهد الرسمي بان كل المستعمرات الأوروبية السابقة لها الحق في الحكم الذاتي في اعقاب الحرب العالمية الثانية. ضغط الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت على رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ونستون تشرشل والحلفاء الآخرين للتوقيع على ميثاق الاطلنطي في 1941 كشرط مسبق للحصول على الدعم الأميركي في الحرب الأوروبية ضد الفاشية.
ولكن بفضل مدير السي اي ايه الأسبق الن دلز وممارسات الوكالة، والتي عادة ما كانت تتعارض دسائسها في السياسة الخارجية مع السياسات المعلنة للدولة، لم يتم سلك طريق المثالية التي تم تحديدها في ميثاق الاطلنطي.
في 1957 كان جدي السفير جوزيف بي كينيدي عضوا في لجنة سرية كلفت بالتحقيق في سوء تصرف السي اي ايه في الشرق الاوسط. وقد وصف التقرير المعنون «تقرير بروس لوفيت»، والذي وقعه جدي، خطط الانقلابات التي وضعتها السي اي ايه في الاردن وسوريا وايران والعراق ومصر وكلها معروفة لدى الشارع العربي ولكنها فى الحقيقة غير معروفة لدى المواطنين الأميركيين الذين صدقوا انكار حكومتهم.
القى التقرير باللوم على السي اي ايه في انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة والتي بدأت تتجذر بشكل غامض «في كثير من دول العالم اليوم». وأشار التقرير الى ان مثل تلك التدخلات تتناقض مع القيم الأميركية وتعرض الزعامة الدولية للولايات المتحدة للخطر وتهدد سلطتها الاخلاقية دون علم الشعب الأميركي.
كما اوضح التقرير ان السي اي ايه لم تفكر مطلقا في كيف سيتم التعامل مع مثل هذا التدخل في حالة ما اذا اقدمت دولة اجنبية على تنفيذه في بلادنا.
هذا هو التاريخ الدموي الذي لا يدركه دعاة التدخل المعاصرون من أمثال جورج دبليو بوش وتيد كروز وماركو روبيو وهم يرددون مجازهم النرجسي بأن القوميين الشرق الأوسطيين «يكرهوننا لحرياتنا».
فى الأغلب الأعم لا يكرهنا العرب لذلك بل يكرهوننا بسبب الطريقة التى خنا بها تلك الحريات - مثلنا العليا - داخل حدودهم.
وحتى يتفهم الاميركيون حقيقة ما يجرى من الضروري ان نراجع بعض تفاصيل ذلك التاريخ »الدنيء» والذي قليلا ما يتم تذكره.
خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي رفض الرئيس ايزنهاور والشقيقان دالاس (الن دالاس مدير السي اي ايه ووزير الخارجية جون فوستر دالاس) اقتراحات الاتفاق ا بترك الشرق الأوسط كمنطقة محايدة وترك العرب يحكمون بلادهم. وبدلا من ذلك شنوا حربا سرية ضد القومية العربية - والتي ساواها الن دولز بالشيوعية - تحديدا عندما بدأ الحكم الذاتي العربي يهدد التسويات المتعلقة بالنفط.
وبدأت السي اي ايه تدخلها النشط في سوريا في 1949 بعد اقل من عام من تأسيس الوكالة.
كان الوطنيون السوريون قد أعلنوا الحرب على النازي وطردوا الحكام المستعمرين التابعين لحكومة فيشي واقاموا ديمقراطية علمانية هشة تعتمد على النموذج الأميركي. ولكن في آذار 1949 تردد الرئيس السوري شكري القواتلي، المنتخب ديمقراطيا، في الموافقة على مشروع خط أنابيب أميركي كان يهدف لربط حقول النفط في السعودية بموانئ لبنان عبر سوريا.
وفي كتابه «إرث الرماد» يشير تيم وينر مؤرخ السي اي ايه الى انه انتقاما لافتقار القواتلي للحماس لمشروع خط الانابيب الاميركي هندست السي اي ايه انقلابا لاستبدال بالقواتلى ديكتاتور تابع لها ومحتال مدان اسمه حسنيالزعيم. وما ان قام الزعيم بحل البرلمان والموافقة على خط الانابيب حتى اطاح به السوريون بعد اربعة اشهر ونصف فقط من توليه الحكم.
وبعد عدة محاولات انقلابية مناوئة في الدولة غير المستقرة، اختبر السوريون الديمقراطية مرة اخرى في 1955 واعادوا انتخاب القواتلي وحزبه الحزب القومي. ورغم التزام القواتلي بموقف محايد تجاه الحرب الباردة الا انه، نتيجة التورط الاميركي في الاطاحة به بدأ يميل نحو المعسكر السوفياتي. هذا التوجه دفع مدير السي اي ايه الن دلز للاعلان ان «سوريا اصبحت مستعدة لانقلاب» وارسل خبيري الانقلابات كيم روزفلت وروكي ستون، اللذين دبرا الانقلاب ضد الرئيس محمد مصدق في ايران، إلى دمشق.
وصل ستون إلى دمشق في نيسان 1957 ومعه ثلاثة ملايين دولار لتسليح وتحريض المتشددين الاسلاميين ورشوة ضباط الجيش السوري والسياسيين للاطاحة بنظام القواتلي العلماني المنتخب وذلك وفقا لما جاء في كتاب «آمن للديمقراطية: الحروب السرية للسي اي ايه» لجون برادوس.
وعن طريق التعاون مع الإخوان المسلمين وبواسطة ملايين الدولارات خطط روكي ستون لاغتيال رئيس المخابرات السورية وقائد قواتها المسلحة ورئيس الحزب الشيوعي فضلا عن هندسة «مؤامرات قومية واستفزازات عسكرية مختلفة في العراق ولبنان والاردن» والتي يمكن القاء تبعاتها على حزب البعث السوري.
ولكن كل أموال السي اي ايه فشلت في افساد ضباط الجيش السوري فقد ابلغ العسكريون السوريون النظام البعثي الحاكم عن محاولات الرشوة من قبل الوكالة. وردا على ذلك قام الجيش السوري باقتحام السفارة الأميركية وتم اعتقال ستون. وبعد تحقيق قاس قدم ستون اعترافا تليفزيونيا بدوره في إنقلاب إيران ومحاولة السي اي ايه الفاشلة للاطاحة بالحكومة المشروعة السورية. وتم طرد ستون وموظفين آخرين بالسفارة الأميركية وكانت المرة الأولى التى يمنع فيها دبلوماسي أمريكي من دخول دولة عربية.
نفت إدارة ايزنهاور اعتراف ستون بوصفها تلفيقات وتشهيرا وابتلعت الصحافة الأميركية بقيادة نيويورك تايمز النفي وصدقه الشعب الاميركي الذي شارك مصدق في رؤيته المثالية للحكومة الاميركية. قامت سوريا بالتخلص من كل السياسيين المتعاطفين مع الولايات المتحدة واعدمت كل الضباط المتورطين في محاولة الانقلاب.
وفي رد فعل انتقامي حركت الولايات المتحدة الاسطول السادس الى البحر المتوسط وهددت بالحرب وشجعت تركيا على غزو سوريا. حشدت تركيا قوات قوامها خمسون الف جندي على الحدود مع سوريا وتراجعت فقط بعد موقف موحد من الجامعة العربية حيث اثار التدخل الأميركي غضب الزعماء العرب.
وحتى بعد طردها من سوريا واصلت السي اي ايه جهودها السرية للاطاحة بحكومة البعث السورية المنتخبة ديمقراطيا. وخططت الوكالة مع جهاز المخابرات البريطاني «ام اي سيكس» لتشكيل «لجنة سوريا الحرة» وقامت بتسليح الاخوان المسلمين لاغتيال ثلاثة مسؤولين بالحكومة السورية والذين ساعدوا في الكشف عن محاولة الانقلاب الاميركية وذلك وفقا لما جاء في كتاب ماثيو جونز الخطة المفضلة: تقرير مجموعة العمل البريطانية الاميركية عن المهمة السرية فى سوريا فى 1957.
سوء التصرف من جانب السي اي ايه دفع سوريا بعيدا أكثر عن الولايات المتحدة باتجاه تحالف ممتد مع روسيا ومصر. وبعد محاولة الانقلاب الثانية في سوريا اجتاحت المظاهرات المعادية لأميركا الشرق الأوسط من لبنان وحتى الجزائر. ومن بين الأصداء كان انقلاب 14تموز 1958 الذي قادته مجموعة من الضباط العراقيين المعادين لأميركا للاطاحة بالملك نوري السعيد الموالي لأميركا. ونشر قادة الانقلاب وثائق حكومية سرية تكشف عن كون نوري السعيد دمية مدفوعة الأجر لدى السي أي ايه. وردا على الخيانة الأميركية دعت الحكومة العراقية الجديدة الدبلوماسيين السوفيات والمستشاريين الاقتصاديين للقدوم للعراق وادارت ظهرها للغرب.
وبعد اثارة غضب العراق وسوريا، فر كيم روزفلت من الشرق الأوسط للعمل كمدير تنفيذي في قطاع البترول الذي خدمه جيدا خلال عمله في السي اي ايه. وقد حاول جيمس كريتشفيلد، خليفة روزفلت في السي اي ايه، ااغتيال الرئيس العراقي الجديد بواسطة منديل مسموم ولكنه فشل وفقا لوينر. وبعد خمسة أعوام نجحت السي اي ايه اخيرا في التخلص من الرئيس العراقي ودفع حزب البعث إلى سدة الحكم. وأصبح صدام حسين، القاتل الشاب ذا الكاريزما، من أبرز زعماء فريق البعث التابع للسي اي ايه. وقال علي صالح سعدي سكرتير حزب البعث والذي تولى الرئاسة إلى جانب صدام حسين فيما بعد ـ وصل صدام للحكم على متن قطار السي اي ايه ـ وذلك وفقا لما جاء في كتاب ـ صداقة وحشية :الغرب والصفوة العرب ـ للكاتب والصحفي سعيد أبوريش. ويشير أبو ريش إلى أن السي اي ايه امدت صدام واعوانه بقائمة اغتيالات تضم أسماء الاشخاص المطلوب التخلص منهم فورا لضمان النجاح... وكتب تيم وينر ان كريتشفيلد اعترف فيما بعد بان السي اي ايه ـ خلقت صدام حسين ـ.
وخلال فترة حكم ريجان أمدت السي اي ايه صدام حسين بمليارات الدولارات لتدريب القوات الخاصة والانفاق على التسليح وجمع المعلومات المخابراتية رغم علمها أنه يستخدم الخردل السام وغاز الاعصاب والاسلحة البيولوجية فضلا على الانثراكس الذي حصل عليه من الحكومة الأميركية في حربه على إيران.
اعتبر ريجان وبيل كاسى مدير السي اي ايه في ذلك الوقت صدام حسين كصديق محتمل لقطاع النفط الاميركى وحاجز قوى أمام انتشار الثورة الاسلامية الايرانية.
وفي الوقت نفسه كانت السي اي ايه تمد، بصورة غير شرعية، إيران (عدو صدام) بالآلاف من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات لمحاربة العراق وهي الجريمة التي تم الكشف عنها خلال فضيحة ايران كونترا. وقد وجه الجهاديون من الجانبين تلك الاسلحة المقدمة من السي اي ايه نحو الشعب الأميركى.
وبينما تفكر الولايات المتحدة في تدخل آخر عنيف في الشرق الأوسط، لا يدرك معظم الأميركيين كيف ساهمت الأخطاء السابقة للسي اي ايه في خلق الأزمة الحالية.
لكن قصص السي اي ايه معروفة جيدا لدى شعبي سوريا وايران واللذين عادة ما يفسران الحديث عن التدخل الأميركى فى إطار هذا التاريخ.
وفي حين يردد ببغاوات الصحافة الأميركية الداجنة رواية أن دعمنا العسكري للمتمردين في سوريا يأتي لغرض انساني يرى الكثير من العرب الأزمة الحالية بمثابة حرب بالوكالة على خطوط الأنابيب والسياسة الجغرافية. وقبل أن نسرع نحو التورط أكتر في الأتون قد يكون من الحكمة بحث الحقائق الكثيرة التي تؤيد هذا المنظور.
من وجهة نظر العرب لم تبدأ حربنا ضد بشار الأسد مع الاحتجاجات المدنية السلمية في اطار الربيع العربي في 2011. بل بدأت في عام 2000 عندما اقترحت قطر انشاء خط أنابيب بطول 1500 كيلومتر وبتكلفة عشرة مليارات دولار يمر عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا. تشارك قطر إيران في حقل غاز يعد من اغنى حقول الغاز الطبيعي في العالم. وكانت العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران تحظر على طهران بيع الغاز بالخارج. وفي نفس الوقت لا يمكن للغاز القطري أن يصل للأسواق الأوروبية الا اذا تم تسييله وشحنه عبر البحر وهي وسيلة تفرض قيودا على الحجم وبالتالي ترفع التكلفة. وكان خط الأنابيب المقترح سيربط بين قطر واسواق الطاقة الأوروبية مباشرة عبر خطوط توزيع في تركيا.
وكان الاتحاد الاوروبي، الذي يحصل على 30 فى المائة من احتياجاته من الغاز من روسيا، متعطشا بنفس القدر لخط الأنابيب حيث كان يمد الدول الأعضاء بالاتحاد بوقود رخيص وراحة من نفوذ فلاديمير بوتين الاقتصادية والسياسية. وكانت تركيا، ثاني أكبر مستهلك للغاز الروسي، متحمسة لانهاء اعتمادها على روسيا خصمها التاريخى
وبالطبع اعتبرت روسيا، التي تبيع 70 في المائة من صادراتها من الغاز لأوروبا، خط الأنابيب القطري التركي تهديدا وجوديا. ومن وجهة نظر بوتين خط الأنابيب القطري مؤامرة من جانب الناتو لتغيير الوضع الراهن، وحرمان روسيا من موطئ قدمها الوحيد في الشرق الأوسط، وخنق الاقتصاد الروسي، وانهاء النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبية. وفي عام 2009 أعلن الأسد أنه سيرفض توقيع الاتفاق الذي يسمح لخط الأنابيب بالمرور عبر سوريا ـ لحماية مصالح الحليف الروسي ـ.
وتشير التقارير المخابراتية إلى انه في اللحظة التي رفض فيها الأسد خط الانابيب القطري توصل مخططوا اجهزة المخابرات إلى اجماع على أن تمردا سنيا في سوريا للاطاحة ببشار الأسد غير المتعاون هو الطريق العملي لتحقيق الهدف المشترك باستكمال خط الأنابيب القطري التركي.
في عام 2009 وفقا لتسريبات ويكيليكس وبعد رفض الاسد لخط الغاز القطري بدأت السي اي ايه تمويل جماعات المعارضة في سوريا. ومن الضروري أن نذكران هذا كان قبل اندلاع الربيع العربي بفترة.
ان فكرة خلق حرب أهلية بين السنة والشيعة لاضعاف النظام السوري والايراني من أجل احكام السيطرة على الامدادات البتروكيميائية الموجودة بالمنطقة ليست فكرة أدبية مجردة. ففي عام 2008 أعدت منظمة ـ راند ـ تقريرا إقترحت فيه خطوات لما سيحدث، ولاحظ التقرير أن السيطرة على احتياطات النفط والغاز في منطقة الخليج العربي سيظل أولوية استراتيجية للولايات المتحدة واقترحت ـ راندـ استخدام عمليات التدخل غير المباشر والعمليات المعلوماتية لتفعيل وتدعيم استراتيجية فرق تسد.
وكما هو متوقع فان رد الفعل المبالغ فيه من قبل بشار الأسد لهذه الأزمة المفتعلة من الغرب مثل القاء البراميل المتفجرة على مناطق السنة وقتل المدنيين رسخت الانقسام السني الشيعي وسمحت لصانعي السياسة الاميركيين أن يروجوا للمواطنين الاميركيين فكرة أن الصراع على البترول هي حرب انسانية. وعندما بدأ الجنود السنة في الانشقاق عن الجيش السوري عام 2013، قامت القوى الغربية بتسليح الجيش السوري الحر لاحداث مزيد من عدم الاستقرار في سوريا. وقد اتضح أن الصورة التى قدمتها الصحافة للجيش الحر باعتباره وحدات متجانسة من السوريين المعتدلين مجرد وهم. فقد شكلت هذه الوحدات مئات من الميليشيات المستقلة، معظمها كانت تقودها او تتحالف معها الميليشيات الجهادية وهم أكثر المقاتلين التزاما وفاعلية. وفي ذلك الوقت عبر مقاتلو داعش السنة الحدود من العراق الى سوريا وانضموا الى مجموعات من المنشقين من الجيش السورى الحر، معظمهم تلقى التدريب والتسليح من الولايات المتحدة.
وهذا بالضبط ما حدث، وليس من قبيل المصادفة أن المناطق السورية التي احتلها تنظيم الدولة تشمل تماما مسار خط الغاز القطري المقترح.
وعلى امتداد العالم العربي، اعتاد الرؤساء العرب اتهام الولايات المتحدة بخلق تنظيم الدولة الاسلامية، وبالنسبة لمعظم الأميركيين فان مثل هذه الاتهامات تبدو مجنونة، ومع ذلك بالنسبة لمعظم العرب، فان الدليل على التورط الاميركي واضح ولا يحتاج الى دليل الى حد استنتاجهم أن دورنا فى رعاية تنظيم الدولة كان متعمدا.
وفي الحقيقة فان معظم مقاتلي تنظيم الدولة وقادتهم هم خلفاء فكريون وعقائديون للجهاديين الذين رعاهم السي اي ايه من اكثر من 30 عاما وأرسلهم من سوريا ومصر الى افغانستان والعراق.
قبل الغزو الأميركي، لم يكن هناك وجود لتنظيم القاعدة في العراق في أثناء حكم صدام حسين. قام جورج بوش بتدمير حكومة صدام، وقام بول بريمر بإدارة العراق بقدر كبير من السوء، مما أدى إلى خلق ما يسمى الجيش السني والذي تحول فيما بعد إلى ما يعرف بالجيش الإسلامي. قام بريمر بتصعيد الشيعة إلى السلطة وقام بحل حزب البعث الذي أسسه صدام حسين، كما قام بتسريح حوالى 700 ألف عضو من أعضاء الحزب والتابعين للحكومة العراقية وحولهم إلى أعمال مدنية. ثم قام بحل الجيش العراقي والذى كان يضم حوالى 380 ألف شخص، 80% منهم كانوا من السنة.
تلك الإجراءات التي قام بها بريمر جردت أكثر من مليون عراقي سني من ممتلكاتهم وسلطاتهم وثرواتهم ومناصبهم، مخلفا مجتمعا سنيا يائسا وغاضبا ليس لديه شيء ليخسره، وقاموا بتسمية أنفسهم فيما بعد «تنظيم القاعدة فى العراق».
وقال تيم كليمنت، الرئيس السابق للقوة المشتركة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، أن الفرق بين أزمتي العراق وسوريا هم ملايين المقاتلين الذين يفرون من ساحة القتال والهرب إلى أوروبا بدلا من البقاء فى بلادهم.
التفسير الواضح، أن المعتدلين فى البلاد يرون أنهم يفرون من حرب ليست حربهم. فهم يريدون ببساطة الهروب من استبداد بشار الأسد المدعوم من روسيا، ومن وحشية الجهاديين السنة، والتى كان لنا اليد العليا في هذه المعركة العالمية.
لا يمكن إلقاء اللوم على الشعب السوري لعدم تبني موقف لدولتهم سواء ناحية موسكو أو ناحية واشنطن. لم تترك القوى العظمى خيارات مثالية للمستقبل للمعتدلين في سوريا للقتال من أجله. ولا يريد أحد أن يموت من أجل البترول.
ما هي الإجابة؟ لو كان الهدف هو سلاما طويل الأمد في الشرق الأوسط، حكما ذاتيا للدول العربية، وأمنا قوميا في الوطن، يجب علينا التدخل بشكل جديد في المنطقة، مع التركيز على التاريخ وأن يكون هناك رغبة فى التعلم من دروس الماضي. وهذا سيحدث عندما نفهم نحن الأميركيين السياق التاريخي والسياسي لهذا الصراع ونتحرى الدقة في قرارات قادتنا.
وباستخدام نفس الصورة واللغة التي دعمت حربنا عام 2003 ضد صدام حسين، قاد الزعماء السياسيون الاميركيون الشعب نحو الاعتقاد بأن تدخلنا في سوريا يعد حربا مثالية ضد الإستبداد، والإرهاب والتعصب الديني.
ونحن نميل إلى رفض السخرية من وجهات نظر العرب الذين يرون أن الأزمة الحالية تعتبر اعادة انتاج لمؤامرات الماضي حول البترول والجغرافيا السياسية، ولكن اذا اردنا أن يكون لنا سياسة خارجية فعالة، يجب أن نعترف أن الحرب في سوريا هي حرب للسيطرة على الموارد، ولا تختلف كثيرا عن الحروب السرية السابقة والتي لا تعد ولا تحصى، حول البترول الذى نقاتل من أجله في الشرق الأوسط طوال 65 عاما.
وفقط عندما نرى أن هذه الحرب هي حرب بالوكالة حول البترول، تصبح الأحداث مفهومة وواضحة، انها فقط النموذج الذي يفسر لماذا يريد الحزب الجمهوري والكونغرس وأوباما تغيير النظام السوري أكثر من اهتمامهم بالإستقرار الإقليمي في المنطقة. لماذا لا يجد الأميركيون معتدلين سوريين لخوض الحرب، لماذا فجر تنظيم الجيش الإسلامى في العراق وسوريا طائرة الركاب الروسية، لماذا اسقطت تركيا الطائرة الروسية، المليون لاجئ الذين يفرون الآن إلى أوروبا هم لاجئون بسبب حرب النفط، وتخبط السي أي ايه.
وبمجرد الاعتراف بأن الحرب في سوريا هي حرب من أجل النفط، تصبح استراتيجية سياستنا الخارجية واضحة، مثل السوريين الفارين إلى أوروبا، لا يريد الأميركيون ارسال أبنائهم للقتال من أجل النفط، وبدلا من ذلك يجب أن تكون الأولوية الأولى بالنسبة لنا، والتي لم يذكرها أحد قط، أن نستبعد اهتمامنا ببترول الشرق الأوسط، وتصبح الولايات المتحدة مستقلة بشكل أكبر في انتاج الطاقة، وأيضا نريد بشكل كبير خفض تواجدنا العسكرى فى الشرق الأوسط، والسماح للعرب بإدارة دولهم، بالإضافة إلى ضمان حدود أمن إسرائيل، وتصبح الولايات المتحدة بدون دور مشروع في هذه المشكلة. في حين تثبت الحقائق أننا لعبنا دورا كبيرا في خلق هذه المشكلة، يثبت التاريخ أننا ليس لدينا القوة أو القدرة على حلها.
وعندما نتأمل التاريخ، ننظر بدهشة كيف أن كل تدخل من قبل الولايات المتحدة لمنع أي عنف أدى إلى فشل ذريع ورد فعل سلبى بشكل مخيف، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن.
الرابح الوحيد في هذه الحروب هم شركات النفط والجنود المرتزقة، والذين دخلت جيوبهم أرباح خيالية. بالاضافة إلى أن وكالات المخابرات نمت بشكل كبير سواء من حيث النفوذ أو السلطة، على حساب حرياتنا والجهاديين الذين استخدموا تدخلاتنا.
لقد حان الوقت للأميركيين لابعاد الولايات المتحدة عن الاستعمار الجديد والعودة إلى طريق المثالية والديموقراطية، يجب أن ندع العرب يحكموا دولهم، وأن نحول طاقتنا لبناء الأمة من الداخل. نحتاج أن نبدأ هذه العملية، ليس عن طريق غزو سوريا، ولكن من خلال انهاء الادمان المدمر للنفط، الذي شوه السياسة الخارجية الأميركية على مدى نصف قرن.