لم تكن رائحة الفتنة المذهبية، في أيّ يوم، تفوح في لبنان إلى هذا الحدّ، حتى عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحتى خلال موجة التفجيرات الانتحارية قبل عامين. واكتشف الجميع أنّ بعض القادة اللبنانيين، الشيعة والسنّة، الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا وكلاء القوى المذهبية الإقليمية، والذين لطالما منعتهم تعليمات الخارج من الانجرار إلى الفتنة، هم أنفسهم سيهرولون نحو الفتنة... إذا جاءتهم التعليمات بذلك. فالوكلاء هم وكلاء. وكلاءٌ للتسويات ووكلاءٌ للحروب والفتن... برضاهم أو غصباً عنهم! في الأيام الأخيرة، تبلّغت القوى الأمنية أنّ هناك مخاوف حقيقية من اندلاع فتنة في لبنان. وبدأت هذه القوى رصدَ بؤر التفجير المحتمل، منعاً لصدمة قد تودي بلبنان إلى كارثة، وهي الآتية:
-1 مخيمات النازحين السوريين، غير الرسمية، التي ازداد عددها في شكلٍ مثير، من 1069 مخيماً في نيسان 2014، إلى 5082 مخيماً في كانون الأول 2015، أي ما يعادل زيادة بنحو 80 في المئة، في موازاة نموّ أعداد النازحين في هذه المخيمات من 161 ألفاً في 2014 إلى نحو 194 في 2015.
وصحيحٌ أنّ هذه النسبة ليست كبيرة قياساً إلى العدد الإجمالي للسوريين، بين نازحين ومقيمين وعمال (نحو مليوني نسمة) إلّا أنها تنذر بالخطر لأنها ليست مضبوطة على رغم عمليات الرصد التي تنفِّذها الأجهزة الأمنية هناك.
والمثير أنّ الكثيرَ من النازحين يشكون إلى المؤسسات الدولية الراعية لهم ما يسمّونه «انتهاك الأمن اللبناني المستمر» لهذه المخيمات بحثاً عن مشتبه بهم، علماً أنّ ثمة شبهاتٍ بتغلغل خلايا إرهابية منظّمة فيها، وقادرة في أيّ لحظة على التحرّك بناءً على تعليمات تتبلَّغها.
-2 تجمعات النازحين السوريين في عرسال وجرودها، حيث يقيم نحو 80 ألف نازح سوري، مقابل 40 ألفاً من أبناء البلدة. وبين هؤلاء كوادر لـ»النصرة» يتحكَّمون بالبلدة ويفرضون عليها قوانينهم، فيما الجيش اللبناني يضبط الوضع من الخارج. أما في الجرود المفتوحة على القلمون السوري، فهناك سيطرةٌ لـ«النصرة» و«داعش» على الكثير من المناطق، وتنازعٌ دائم مع الجيش.
-3 المخيمات الفلسطينية، ولاسيما عين الحلوة المحكومة بكوكتيل من زعماء الزواريب المرتبطين بالخارج، والتي تتغلغل فيها خلايا إرهابية ناشطة وتابعة مباشرة لتنظيماتٍ وجماعاتٍ لها امتدادات إقليمية. وفي الأيام الأخيرة، شدَّدت القوى الأمنية اللبنانية والقوى الفلسطينية المحلّية إجراءاتها في المخيم وجواره، تحسّباً لمفاجآت.
- 4 طرابلس التي تنعم بأفضل أيامها أمنياً منذ انتهاء المواجهات بعد تأليف حكومة الرئيس تمام سلام، وإزالة خطوط التماس بين باب التبانة وبعل محسن وخروج زعماء الزواريب منها. وقد سرت أخيراً شائعاتٌ مفادها أنّ هناك تفكيراً في إحياء ما سمّي سابقاً «أفواج طرابلس». وسواءٌ كانت هذه الشائعات صحيحة أو لمجرد الدسّ، فهي تنذر بوجود نيّة لاستعادة التوتر في المدينة.
- 5 الخلايا الإرهابية النائمة، والمتغلغلة في مناطق سكنية للبنانيين وسوريين وفلسطينيين، من الشمال إلى البقاع وجبل لبنان وبيروت والجنوب، والمتداخلة مع النقاط الأربع السابقة. وهنا تبرز الخشية من قيام الخلايا النائمة بافتعال توترات متنقلة في العاصمة مثلاً أو اغتيالات أو استعادة مسلسل التفجيرات الانتحارية الذي ضرب المناطق الشيعية (الضاحية الجنوبية وبعلبك- الهرمل) قبل أكثر من عام.
إذاً هذه هي النقاط الخمس التي تستنفر القوى العسكرية والأجهزة الأمنية. وفي تقدير المتابعين أنّ أحد الأطراف المذهبية الإقليمية قد يعمد إلى استخدام لبنان ساحة لتبادل الرسائل أو المواجهة المسلّحة، في سياق الضغط على خصومه الإقليميين.
ولكن أيضاً، قد تقوم جهاتٌ إرهابية معيّنة باستغلال التوتر المذهبي لدفع الجميع إلى مواجهة تستثمرها لإيجاد موقع لها على الطاولة. ولذلك، قد تعمد هذه الجهات إلى إشعال فتيل التفجير في منطقة معيّنة، وبعد ذلك تنتقل المواجهات بالعدوى إلى مناطق أخرى.
وتبدي مصادر متابعة لمجريات الملف الأمني ملاحظاتٍ عدة حول خصائص كلٍّ من البيئات المعرَّضة للتفجير، السورية والفلسطينية واللبنانية:
- بيئة النزوح السوري مهيأة أكثر من سواها لتوفير الدينامية اللازمة للإرهابيين، بعيداً عن رقابة القوى الأمنية اللبنانية. ومردّ ذلك هو فوضى التدفُّق إلى المخيمات السورية وخارجها، وتغلغل عناصر إرهابية سورية في هذه البيئات وتمدُّدها إلى داخل المخيمات الفلسطينية والعديد من المدن والبلدات اللبنانية.
- بيئة المخيمات الفلسطينية، ولاسيما عين الحلوة، هي الحيِّز الجغرافي الأمثل لكي يخطّط الإرهابيون لأيّ عمل تخريبي، بعيداً عن الرصد الأمني اللبناني، على رغم التنسيق القائم بين القوى الأمنية الفلسطينية في المخيم والأمن اللبناني.
- البيئات اللبنانية «الحاضنة» للنازحين السوريين والفلسطينيين تتعرَّض لضغوطٍ من مختلف الجهات، وقد تدفع الثمن من أمنها.
وفي الدرجة الأولى، يبدو وضع عرسال وجوارها هو الأخطر، لأنّ رقابة الأمن اللبناني عاجزة عن تأمين رصد كامل لتلك المنطقة. وفي الدرجة الثانية يمكن التخوُّف من جوار عين الحلوة.
البعض يقول إنّ أيّاً من القوى الإقليمية النافذة، وتحديداً المملكة العربية السعودية وإيران، ليس له مصلحة في دخول لعبة الرسائل الأمنية في لبنان، لأنّ الفتنة السنّية - الشيعية إذا اندلعت في لبنان ستدفع بالجميع إلى الأتون المندلع في سوريا.
لكن أوساطاً في «8 آذار» تقول إنّ السعودية، على رغم عدم سعيها إلى الفتنة، قرَّرت مواجهة «حزب الله» بقوة في لبنان، على خلفية الصراع الإقليمي. وهذه المواجهة تثير المخاوف من تحَوُّلها تلقائياً فتنةً مذهبية، ولو حرص الجميع على تجنّبها.
وتذهب الأوساط إلى حدّ الحديث عن احتمال لجوء المملكة إلى استخدام الواقع الجغرافي والديموغرافي والأمني للسوريين والفلسطينيين في لبنان لخلق توازن رادع ضدّ «حزب الله». وفي اعتقاد المصادر أنّ هذا السيناريو سيشكل خطراً كبيراً على لبنان واللبنانيين والنازحين عموماً.
وبناءً على معطيات تقول الأوساط إنها متوافرة لديها، ثمّة سيناريوهات أمنية محتملة في العديد من المناطق. وتسأل: أيّ منطقة هي الأكثر عرضة للخطر؟
الأوساط تستدرك: في المبدأ، عرسال وعين الحلوة هما الأخطر. لكنّ موقع كلٍّ منهما الجغرافي لا يتيح للقوى الإقليمية المواجِهة لإيران أن تدخل في مواجهة طويلة ومريحة فيهما. فعين الحلوة تقع عند بوابة الجنوب الشيعي، حيث يضع «حزب الله» كلَّ ثقله لإبقائها مفتوحة. وسبق للمنطقة أن عاشت مغامرة فاشلة في عبرا.
أما عرسال، فهي عسكرياً شبه جزيرة يحيطها «حزب الله» إلّا من جهة الجرود حيث الجيش يتقاسم المواقع مع «النصرة» و»داعش»، وحيث يحتفظ الطرفان الإرهابيان بفجوات وممرّات تربطهما بالداخل السوري.
لذلك، تحذّر المصادر في «8 آذار» من العودة إلى أسلوب التوتير والتفجير المتنقل، أو اعتماد طرابلس مكاناً لتبادل الرسائل الساخنة، نظراً إلى بُعدها عن ضغوط «حزب الله» والقدرة فيها على تنظيم مواجهة لفترة طويلة. وتتحدث المصادر في هذا الإطار عن الشائعات التي انتشرت أخيراً والتي تحدثت عن احتمال إيقاظ قادة الزواريب من سباتهم وتشغيلهم مجدداً.
وتردُّ أوساط «14 آذار» على «هذا السيناريو المزعوم» وتقول: «لا بيئة حاضنة للإرهاب أو الفتنة في أيّ مدينة أو بلدة لبنانية، ولم يترعرع الإرهابيون إلّا في حضن المحور إيران- الأسد، ولن تندلع الفتنة يوماً إلّا إذا قام هذا المحور بإشعالها قصداً».
في هذه الأجواء، وأيّاً كانت سيناريوهات الخوف المتداولة، فالمؤكد أنّ النار السنّية- الشيعية، إذا اندلعت، ستأكل الجميع، بلا استثناء، بمَن فيهم المسيحيون والدروز. وستضمّ لبنان إلى الكيانات المنهارة من غرب المتوسط وصولاً إلى الخليج العربي وإيران.