ليس مَن هاجر وبَعد عن الارض قسراً أو إختيارا , يشعر بالغربة وحده فحسب , بل إن الهجر والهجرة والشعور النفسي بالغربة عن الارض والوطن والأهل , بفعل القهر المتولّد من الحقد والكراهية , الممارس يوميا مباشرة أو غير مباشر , بخطاب أو بحوار , أو بإتهام , أو بتهديد وتجريح وهتك للكرامة والتشهير بكل الوسائل , وأنت داخله ومعه وتعايشه بلحظاته, وترد عليه بالمحبة والحرص والنقد التوجيهي , وهمّك تصحيح العبث الفكري والثقافي , هو الاصعب وهو الهجران الحقيقي , هذه الحالة لهي الغربة القاتلة , وأكثرها ألماً , ووقعها على النفس أشدّ مضاضة .
مع كل هذا , وأكثر مما لم نذكره , لا يمكنك ترك الجاهل على جهله , والضال على ضلالته , والمتهور على تهوره , خوفا عليه وعلى الوطن وعلى المواطنين , وتمسكا بما تبقى من أمل في تصحيح الخلل الحاصل من التشنج المذهبي البغيض , والذي جعل التوتر حاكما على كل سلوك , سواء كان فرديا أو جماعيا .
حيث الخوف يسيطر على كل شيء من كل شيء , نفوسٌ مشحونة بالغضب والغرائزية , ويغذي هذا كلُّ مستفيد من الفوضى والاضطراب , وجماعات تستغل عواطف واحاسيس الناس فتصب الزيت على النار , وهم في منأى عن النار ولهيبها , فإذا نجح مشروع الفتنويين ماذا يبقى من لبنان ؟ .
الفتنويون في لبنان نوعان , الاول يعرف ماذا يفعل ويخطط وينفذ , والثاني هو المُضلَل الجاهل الذي يمارس عمل الفتنة بطريقة لا شعورية وهو يحسب أنه يصنع خيرا , وهذا مأخوذ بتأثير الخطاب المذهبي المسيطر على العقول والذي زرع فيها أولويات خاطئة , ومنعها من حريّة التفكير ومنع حرية السؤال عن الواقع والمصير , لأنه ربط التفكير وتحديد المصير بمركزية , وإستراح من همّ السؤال .
يعتمد الفريق الاول الذي يخطط على الفريق الثاني الغوغائي الذي تسيّره الغريزة , في تنفيذ مآربه الفتنوية , من هنا فإن عمل ووظيفة العقلاء والمثقفين هو التوجه إلى الفريق الثاني من اجل حضه على السؤال لنفسه ماذا يبقى من لبنان ومن مصيرك إذا نجح مشروع الفتنويين ؟ , لأن التوجه إلى الفريق الاول لا ينفع بعد أن تذوّق حلاوة السلطة وقرّر أن لا بقاء له الا في أجواء الفتنة التي تبعد الناس عن المطالبة بحقوقها وبالتالي تعكّر عليه صفو السلطة والتسلط .
ماذا بقي من لبنان بعد هذه الفتنة التي قسّمت المكونات اللبنانية فكريا وثقافيا حتى أخلاقيا وقيميا , سوى الاقرار بنجاح العدو الصهيوني بتمرير مشروعه الفتنوي , والاقرار على مضض أن العدو قد غلبنا بأنفسنا , وإنتصر علينا بتشتيتنا وزرع الكراهية لبعضنا البعض , وقد غاب عن خطابنا اليومي القضية المركزية الفلسطينية التي قامت من أجلها كل الحركات الثورية في العالم العربي , وساد الاستبداد والظلم في العالم العربي والاسلامي لعقود طويلة بحّجة فلسطين , وتمركزت سلطات تمعن في سلب الثروات , وإستلاب الحريات بإسم فلسطين الغائب الوحيد من خطابنا الثوري .