قد تكون مجرد مصادفة ان يصمد وقف النار في سوريا وان يخرق في لبنان. لكن تاريخ البلدين وانفصالهما القسري وكذا سيرتهما على مدى نصف قرن مضى، لا تدع مجالا للشك في ان إندلاع الحرب في أحدهما يضمن حلول السلم في الاخر. هي قاعدة تكاد تكون راسخة، على الرغم من نهاية الحرب السورية ليست وشيكة، كما ان استئناف الحرب اللبنانية ليس حتمياً.
لكن السير في هذا الاتجاه المزدوج المبني على قواعد جغرافية- سياسية حاسمة، هو ما يميز الراهن من الصراع الداخلي اللبناني السوري الذي لم يخضع يوما لقوانين الانفصال والسيادة بين البلدين ذوي الشعب الواحد، وان اختلفت أدوات الصراع وأشكاله وشعاراته بين الحين والاخر لكنه ظل في العمق صراعاً طائفياً مذهبياً، وسيبقى الى الابد.. مهما تكاذب اللبنانيون والسوريون وأسقطوا على حروبهم الاهلية المقيمة مسميات سياسية تصل أحيانا الى حد خرافة الحرب العالمية التي ما كانت لتنشب الا لمنعهم من التلاقي والتفاهم والتعايش.
الخلل الطائفي ظهر في البلدين في وقت واحد تقريباً، او هو الاقل تغذى من فوائض القوة او الضعف العابرة للحدود الثنائية، كما في الحلف المقدس بين المارونية السياسية والعلوية السياسية الذي دام حتى بداية الحرب في سوريا، وما زالت بعض معالمه حاضرة في البلدين، وهي تخوض اليوم بالتعاون مع الشيعية الأمنية، آخر معارك الدفاع عن النفس، في وجه عدو مشترك، هو الغالبية السنية التي توسم كلها بالارهاب والتكفير.
وقف النار السوري ليس خاتمة الحرب، لكنه بداية عملية تفكيك معقدة ومطولة للنظام السوري الراهن، ستكون محصلتها النهائية تغييراً جذرياً في البلدين معاً. وهو اليقين الوحيد لدى جميع المحاربين اللبنانيين والسوريين من دون استثناء، ما يحفزهم اليوم على القتال بضراوة في أول حرب وجودية مشتركة بين الشعبين في العصر الحديث، بعدما تنصل الاشقاء السوريين من الحرب الاهلية اللبنانية في النصف الثاني من القرن الماضي، وتركوا لنظامهم إدارتها. وهو ما لم يعد متاحاً اليوم حيث يستحيل فصل جبهات المواجهة في البلدين أو تمويه الصدام الموحد بين الهويات الطائفية والمذهبية، بين السنة من جهة وبين الشيعة والعلويين والمسيحيين الملتحقين بهم من جهة ثانية.
بدأت عملية تفكيك النظام السوري(وتأهيل البديل)، في مهمة جذرية يتولاها الروس ولا يعارضها الاميركيون والعرب والاتراك، ومن مقدماتها العلنية الاولى إتفاق الهدنة التدريجية، ومن نتائجها السرية الاولى بدء الانسحاب العسكري الايراني لقوات الحرس الثوري من سوريا، (بالتزامن المثير مع تراجع تلك القوات وأربابها المتشددين في مجلسي الشورى والخبراء حسب النتائج الاولية للانتخابات الايرانية).
لن يكون لبنان بمنأى عن هذه التحولات الجوهرية في مسار الازمة السورية واعادة تشكيل بنية السلطة والمجتمع السوريين. وما كان يصح سابقاً عن صمود النظام السوري وعن التوسع الإيراني وعن التورط اللبناني، لم يعد له اي سند منطقي، ودخل في مرحلة التكيف مع المساعي الدولية لاعادة بناء سوريا الجديدة.. بعدما كادت السنوات الخمس الماضية توحي بان الخلل في موازين القوى اللبنانية الطائفية، لحساب الشيعة على السنة، صار نهائياً ولا رجعة عنه.
اليوم يبدو ان ثمة محاولة جدية لتصحيح ذلك الخلل، في لبنان وفي سوريا في آن واحد. الهدنة تحول دون المضي قدما في إختبار القوة في أحد البلدين، لكنها تفسح المجال لإختبار القوة في البلد الاخر. مع ان هناك فرصة، وحتى رغبة عربية ودولية بان يتم إحترام الهدنة في البلدين معاً، بحيث تكون “وحدة المسار والمصير”، هي الدليل لاعادة بناء دولتين عصريتين في شعب واحد، وإسقاط أوهام التقسيم التي تراود اليوم مختلف الطوائف المنتشرة في بلاد الشام.