لم يتوقف بعد قطار الجنون السعودي. النظام الحاكم للجزيرة العربية، ينوي، بحسب المعلومات المتداولة في لبنان وعلى ألسنة دبلوماسيين غربيين وعرب، المباشرة بسلسلة إجراءات عقابية إضافية بحق اللبنانيين، في المجالين السياسي والاقتصادي. وسيكون إلى جانبه النظام الإماراتي، مع سعي إلى حشد أكبر عدد ممكن من الدول العربية. المعلومات تشير إلى زيادة وتيرة عمليات طرد اللبنانيين من الخليج، إضافة إلى «محاولة إيجاد آلية لمراقبة التحويلات المالية». ما يصل إلى بيروت من الرياض وأبو ظبي وعواصم أخرى يُقلق بالدرجة الأولى القوى الموالية للسعودية، وفي مقدمها الرئيس سعد الحريري.
والأخير، بحسب مقربين منه، بات يرى أن الإجراءات السعودية مبالغ بها، وخاصة بعدما وردته «تهديدات» بإمكان حظر رحلات شركات الطيران الخليجية إلى مطار بيروت ومنه. وبسبب تخوفه من نتائج هذه الإجراءات، آلى على نفسه الالتزام بطريقة والده في لحظات مشابهة: التخفيف من الكلام ذي المعاني السياسية، سواء في العلن أو في الاجتماعات المقفلة، والتركيز على الشعارات «الجامعة»، كبناء الدولة وغيره. قوى 14 آذار، وشخصيات سياسية من جهات مختلفة، سمعت كلاماً واضحاً من دبلوماسيين أميركيين يزعمون فيه أن إدارة بلادهم تعارض كل ما يمكن أن يمس باستقرار لبنان وأمنه. وكان المتصلون بالدبلوماسيين الأميركيين ينتظرون زيارةَ موفدٍ أميركي للرياض، يحث حكام السعودية على عدم اتخاذ إجراءات تمس الأمن والاقتصاد اللبنانيين. لكن هذا الموفد لم يظهر بعد. يقول الأميركيون، بحسب مصادر دبلوماسية وأخرى محلية، إن واشنطن ملتزمة بصورة «تامة ومتوازية بأمن السعودية ولبنان واستقرارهما. وهي تحذر من المس بالاستقرار الأمني والاقتصادي للبنان». وهي تقول إنها لا تمانع «إرهاق حزب الله وبيئته، لكن مع الحرص على عدم إغضاب الحزب واستدراجه الى انقلاب كبير. ولذلك، فهي مع بقاء الحكومة اللبنانية ومع تسوية في ملف الانتخابات الرئاسية». لكن من الواضح أن السعوديين يستفيدون من هذا «الهامش» الواسع جداً، المسمى مواجهة حزب الله، وهو ما رفعت الإدارة الأميركية من مستواه في الأشهر الماضية. ويبدو التنسيق السعودي الأميركي، أو على الأقل التلطّي السعودي في الظل الأميركي، جلياً من خلال قرارات العقوبات السعودية بحق من يصفهم الحكم في الرياض بالناشطين في حزب الله، أو الشركات التي يتهمها بالتابعية للحزب. فلوائح العقوبات السعودية شبه مطابقة للوائح الأميركية.
الحريري يخشى من تسليم الشارع للمتطرفين ويؤيد تسويات داخلية
وغير بعيد عن لبنان، يبرز قلق أميركي متزايد من تعقيدات الوضع السعودي الداخلي، ما دفع واشنطن الى خطوات «احترازية»، منها:
ــ اللجوء إلى تدخل دائم يمنع انفجار العائلة الحاكمة ويحول دون انهيار المملكة. فالتقارير الواردة إلى واشنطن تتضمن معلومات يومية عن الخلافات داخل العائلة، وخصوصاً بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان. ثم إن الموالين للسعودية في لبنان، ومنهم الحريري، أفصحوا عن مخاوف على الاستقرار السياسي في المملكة، نتيجة ما يعرفونه عن خلافات، وهم يتحدثون عن الدور الأميركي الضاغط المانع للانفجار، وخصوصاً بين بن نايف وبن سلمان.
ــ سعي أميركي متواصل لاحتواء المشكلات، وخصوصاً مع تزايد الأخبار عن نية محمد بن سلمان إقناع والده بتنحية محمد بن نايف وتوليته هو (محمد بن سلمان) منصب ولي العهد. فابن الملك يعرف أن وصوله الى رأس هرم السلطة غير ممكن إلا في حياة والده، فيما يحذر بن نايف من انفجار في العائلة. ودفع هذا الأمر دبلوماسيين أميركيين إلى الحديث عن صيغة حل، تقضي بجعل بن نايف ملكاً، مع تقديم ضمانات لبن سلمان بعدم إزاحته عن ولاية العهد، وتهدئة مخاوفه، لجهة أن ابن نايف ليس لديه أبناء ذكور، وأن بالإمكان إدخال تعديلات على صلاحيات الحكام بما يتيح لولي العهد تولي مسؤوليات تنفيذية رئيسية، عسكرية وأمنية واقتصادية.
ــ توسيع حضور المستشارين الأميركيين، بمن فيهم الأمنيون، وافتتاح مكاتب لهم في مناطق سعودية عدة، وإدارة «عملية إحاطة للحكم ومندوبيه».
ــ طلبت الولايات المتحدة، للمرة الأولى، تدخلاً مباشراً لبريطانيا من أجل المساعدة على منع انهيار الحكم السعودي، نتيجة خبرة المملكة المتحدة في هذا البلد وفي الجزيرة العربية ونفوذها في الدول المجاورة.
وهذه الخطوات هي نتيجة لواقع تراه المؤسسات الأميركية صعباً، للأسباب الآتية:
ــ ازدياد خشية واشنطن من عدم قدرة الحكم السعودي على المواءمة بين متطلبات الحروب التي تورط فيها، وبين عائدات المملكة المالية، وخصوصاً في ظل الحديث عن أن الحكم سحب حتى الآن نحو 184 مليار دولار من احتياطه السيادي. ونقل موقع «بزنيس انسايدر» أمس عن مصرف «بنك أوف أميركا ميريل لينش» تقديره أن الاحتياطي السعودي لن يكفي سوى لفترة تمتد إلى ما بين 3 سنوات و5 سنوات، في حال استقرار أسعار النفط عند 30 دولاراً للبرميل، حتى لو خفضت الحكومة إنفاقها بنسبة 25 في المئة (موازنة عام 2016 تضمنت خفضاً للإنفاق بنسبة 14 في المئة).
ــ تراجع العائدات المالية يواكبه ركود اقتصادي ناتج بالأساس من تراجع الإنفاق الحكومي، وهو ما يدفع الى أمرين: الأول، وقف تسلّم المشاريع المتعاقد عليها، لعدم توفر أكلاف المرحلة النهائية؛ والثاني، وقف إطلاق مشاريع أخرى كانت مقررة. ويدفع ذلك شركات أجنبية الى تقليص حضورها في السعودية، وإلى تخفيف عدد العاملين المتفرغين، وهو إجراء يشمل شركات سعودية. ودفعت المناخات المقلقة بالحاكم الى تحذير كبار رجال الأعمال من الاستثمار خارج المملكة، تحت عنوان «منع خروج الرساميل» من البلاد.
ــ تراجع التصنيف الائتماني للسعودية، جعل شركات مالية عالمية، تطلق وللمرة الأولى في تاريخ المملكة الحديث، منتجاً مالياً جديداً، يقوم على أساس بيع الدولار بستة ريالات سعودية خلال 40 شهراً.
كيف ينعكس ذلك على السياسة السعودية في لبنان؟
رجال السعودية في العالم العربي، ومنهم لبنان، في حالة إرباك. وربما يبدو سعد الحريري أكثر من يتأثر بالأمر. والسؤال الذي لم يجد كثيرون في لبنان الإجابة عنه بعد: هل عاد الحريري إلى بيروت وهو على علم بتفاصيل خطة سعودية للتصعيد الشامل؟ أم أنه أتى وبدأت الأمور تلاحقه؟ الثابت حتى الآن أنه كان على علم بوقف العمل بالهبتين السعوديتين إلى الجيش اللبناني، قبل يومين من إعلان القرار.
حزب الله مرتاح: وضعنا أفضل ذاتياً ومحلياً وإقليمياً ودولياً
كما أنه تدارس مع قيادات في تياره، في بعض الخطوات الخليجية قبل صدورها. نهاد المشنوق مثلاً، كان على اطلاع على بعض التفاصيل، لكنه لم يلجأ الى ابتداع هامش مستقل عن الحريري. وهو الخطأ الذي ارتكبه أشرف ريفي، الذي ذهب بعيداً في تفسير وتأويل ما سمعه من جهات سعودية عن تصعيد كبير في لبنان. بل إن الحريري يشكو من صقور التيار الذين يوغلون في التحريض، من دون أن يقدر على قمعهم، بل يجاريهم في بعض الخطوات، لأنه يخاف غضباً سعودياً عليه.
ــ السفير السعودي في بيروت، علي عواض العسيري، طلب تدخل شخصيات لبنانية ودبلوماسيين أجانب، لتجنب صدور قرار بإقفال السفارة في بيروت. واستفاد العسيري من توجه الوفود السياسية والشعبية إلى السفارة، لإظهار وجود دور لها في بيروت، وإلا لكان من المفترض أن يجري خفض التمثيل الدبلوماسي السعودي، أسوة بحال دولة الإمارات العربية المتحدة.
برنامج التصعيد
إزاء ما تقدّم، يستمر الحكم السعودي بسياسته التصعيدية ضد اللبنانيين. وهذه السياسة تتضمن برنامجاً للعمل يشمل العديد من الأمور في لبنان والمنطقة وفق سيناريو يقود الى الآتي:
أولاً: تصعيد التوتر السياسي والحملات الشعبية ضد حزب الله، ورفع منسوب القلق من انهيار نقدي في لبنان، علماً بأن معلومات القطاع المصرفي تقول العكس. حتى إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أجاب عن استفسارات كثيرين بأن هناك مبالغة من جانب فريق «المستقبل» بشأن تأثير الخطوات السعودية الحالية.
ثانياً: سعي البعض إلى افتعال مشكلات أمنية، من شأنها تعزيز العصبيات في الشارع. لكن الواضح أن هناك خلافات فعلية بين أركان «المستقبل» حولها. ويدعم الحريري التيار الداعي الى التعقل، وخصوصاً في الشمال وبعض مناطق البقاع وبيروت، وذلك خشية تقدم التيارات المتطرفة للإمساك بالشارع، ما سيجعلها في مواجهة الجيش والقوى الأمنية والمستقبل نفسه، وليس في مواجهة حزب الله. وتبلّغ الحريري من جهات أمنية رسمية بأن حزب الله اتخذ إجراءات أمنية مشددة لمنع ردود فعل على الإشكالات الأمنية. كما عمّمت حركة أمل على قياداتها بأنها ستشهّر بكل مرتكب وستسلّمه للسلطات.
ثالثاً، تراهن السعودية في حالة التوتر الأمني على صدور اتهامات مباشرة من قبل جهات رسمية لبنانية لحزب الله بالوقوف خلف أعمال أمنية، وأن يصار الى إثارة هذه المعلومات كاتهام مصدره الجهات الشرعية اللبنانية. وستنقل هذه المعلومات الى الجامعة العربية وإلى دول مجلس التعاون الخليجي. ويترافق ذلك مع الجهود الكبيرة التي تبذلها السعودية وبالتعاون مع دولة الإمارات العربية والبحرين، وجهات خليجية في الكويت وقطر، وفي دول عربية أخرى مثل السودان والعراق وسوريا، كذلك مع حلفاء السعودية في اليمن، من أجل تقديم ملف أمني، يتهم الحزب بالتحضير لانقلابات في الكويت والبحرين وحث شيعة السعودية على الانتفاضة في المنطقة الشرقية، وتدريب خلايا والقيام بتفجيرات في السعودية والإمارات العربية المتحدة، ما يجعل حزب الله بمثابة القوة الإرهابية والإجرامية التي توجب اعتباره الوجه الآخر لتنظيم «داعش».
ــ تسعى السعودية بدعم من إسرائيل وجهات أوروبية وأميركية إلى نقل هذا الملف الى مجلس الأمن الدولي، بغية الحصول على إدانة، تصنف حزب الله كمنظمة إرهابية توجب الملاحقة في كل العالم، وتبرر أيضاً تعرض قوات الحزب في سوريا، على وجه الخصوص، لضربات عسكرية على غرار ما تقوم به قوات التحالف الأميركي ضد «داعش» في سوريا والعراق، وضد فروع «القاعدة» في اليمن وأفريقيا.
لماذا هدوء حزب الله؟
من الواضح أن حزب الله، المعني الأول بالهجوم السعودي ــ الأميركي ــ الإسرائيلي ليس في حالة توتر. وفي جعبته قراءة تشمل العديد من المعطيات، من بينها ما يتصل بالوضع الداخلي، وما يعرفه من «معلومات أكيدة» عن رغبة قوى بارزة في 14 آذار، بما في ذلك الحريري، في التوصل الى تسوية عامة. وقد بلغته معلومات عن أن الحريري لا يعارض ترشيح العماد ميشال عون، لكنه يقول إن الأمر ليس بيده بل بيد السعودية، وإنه مستعد لعقد تسويات بات مقتنعاً بضرورتها، وتشمل إدارة الحكومة وقانون الانتخابات النيابية. وينظر الحزب إلى ما يجري من حولنا بطريقة مختلفة. فهو أولاً، لا يجد أن في لبنان من يقدر على توفير غطاء شرعي (حكومي أو نيابي أو قضائي) يجعل من الحزب منظمة إرهابية أو إجرامية. كما لديه ما يبرر تدخله في سوريا والعراق بأنه جاء بناءً على طلب الحكومتين العراقية والسورية، وهو يعمل تحت سقفهما عسكرياً أو استشارياً.
ويُدرك الحزب جيداً موقعه في الاستراتيجية الروسية الجديدة في المنطقة. ويمكن القول، ومن دون مبالغة، إن الحزب يمثل رأس حربة الجيش البري لروسيا في سوريا. وبالتالي، فإن سعي السعوديين الى جعل وجود الحزب في سوريا والعراق مشابهاً لوجود «داعش»، يؤدي إلى نتيجة مفادها أن من يريد أن يستهدف قوات الحزب، يكون كمن يقصف القوات السورية والروسية معاً.
لكن حزب الله لا يبني قراءاته على موقعه في الإقليم وتحالفاته فحسب. فاستناداً إلى قوته الذاتية بالدرجة الأولى، انتصر على كل حروب إسرائيل، وواجه محاولات حصاره سياسياً وعسكرياً ومالياً، حتى في ذروة وقوع إيران تحت الحصار والعقوبات. وبالتالي، كيف يفكر البعض بأن حاله اليوم ستكون أصعب من ذي قبل، مع وجود المظلة الروسية في سوريا، والمظلة الشرعية في العراق، وخروج إيران من عزلتها؟
10 مليارات دولار من إيران
يعتقد النظام السعودي وحلفاؤه والموالون له بأن بين أيديهم ورقة تتيح لهم «الإمساك بحزب الله من اليد التي تؤلمه». وتتمثل هذه الورقة أولاً، بإبعاد عائلات وموظفين من بيئته الطائفية والاجتماعية؛ وثانياً، بتصويره كسبب في خسارة لبنان لمليارات الدولارات من المساعدات. في المقابل، يعتقد الحزب، ولديه القرائن، وإن كان لا يعرضها، بأن العقوبات السعودية والخليجية ستصيب «أولاً وثانياً وثالثاً» الفريق المعارض له في لبنان. كما أنها ستجعل لبنان في وضعية مستعدة لتلقي دعم آخرين.
ويشير مطلعون في هذا السياق الى استعداد إيراني حقيقي، وليس مجرد كلام، لدعم تسليح الجيش اللبناني بأسلحة متنوعة ومتطورة، وكذلك تنفيذ مشاريع ضخمة تخص الكهرباء والمياه وملف النفايات والبنى التحتية بمبالغ تقارب العشرة مليارات دولارات.
باختصار، يرى الحزب نفسه داخلياً الطرف الأقوى، وأن أي رئيس جديد للبنان لن يكون من خارج فريقه السياسي. وفي المنطقة، يعاين الحزب مباشرة التقدم الميداني والسياسي في سوريا، وتراجع الخطر الاستراتيجي لـ»داعش» وحلفائه في العراق، ونجاح المقاومة اليمنية في صد العدوان السعودي... وفوق كل ذلك، يراقب موقع حليفه الرئيسي، إيران، بعد رفع العقوبات عنها.