كنت في الستين، حين أغاظني، في إحدى محاضراتي الجامعية، طالب متحزب متعصب، وأخرجني من صوابي، فقفزت عن المنصة وأمسكته من رقبته وأخرجته من القاعة عنوة بعد أن امتنع عن الخروج طوعاً، وكلفني ذلك اعتذاراً من طلابي. كلما ذكرت الحادثة أبرر لنفسي سورة الغضب، وما أكثر الأحداث والأقوال والتعليقات والتصريحات التي تشبه ذلك المراهق السياسي المبتدئ، والتي يحفزني كل منها لأمسك برقبة صاحبها. لكن! في حالتنا الراهنة، ليسوا هم المهددين بالخروج من قاعات التعبير عن الرأي.
كان موضوع المحاضرة عن المدى الجغرافي السياسي لتأثير الحضارات وانتشار وهجها. والأمثلة من تاريخنا القديم كثيرة، الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والعربية، ومن التاريخ الحديث الحضارة الرأسمالية التي تجاوزت سابقاتها وبلغ مدى انتشارها الكون كله بأرضه وفضائه وأعماق محيطاته. كل ذلك متوقف على ما تقدمه الحضارة من إنجازات وإبداعات وما تتركه من آثار. يشذ عن ذلك ما يحسب من باب الغزو والاحتلال للنهب، باعتباره باباً من أبواب الرزق وتحصيل الثروة ومن باب السيطرة والطغيان. أعجب الطلاب بالفكرة وراحوا يطبقونها على ما يعرفونه أو يعاينونه أو يقرأون عنه في كتب التاريخ، واستوقفتهم أمثلة شاذة كالاحتلال الصهيوني والجشع الأميركي، وأمثلة براقة كالعرب في الأندلس أو اليونان والرومان وما تركوه من آثار ضخمة في بلادنا. بيد أن بعضهم راح يغمز من قناة التدخل السوري والايراني في لبنان.
كنت أنصح طلابي بعدم الخلط بين السياسة والعلم، لأن السياسة انحياز وتعصب، بينما ينشد العلم الموضوعية . إذن هما على طرفي نقيض، ولا يمكن للمتحزب أن يكون باحثاً، لأن تعصبه لأفكاره يمنعه من رؤية الحقيقة خارج قوالبه الجاهزة. ذلك الطالب المتعصب لم يرض بأن يطبق على التدخل الإيراني ما ينطبق على سواه من التدخلات، اعتقاداً يقينياً منه بأن إيران فوق الشبهات وأنها خارج قوانين التاريخ. لم يغضبني رأيه، فقد كنت أقدم الدليل لطلابي على كيفية احترام الرأي الآخر. لكنه أخرجني عن طوري حين لم يترك لأصحاب الرأي المختلف، من زملائه الطلاب، في قاعة تغص بأكثر من مئتي طالب، فرصة للتعبير عن وجهة نظرهم. وكان ما كان. وقد شكلت تلك الحادثة دليلاً إضافياً، في نظري، على أن بعض كليات الجامعة اللبنانية لم تعد محلاً لتحصيل العلم.
تسيطر اليوم على جامعاتنا وصحفنا وتلفزيوناتنا أعداد كبيرة من شبه هذا الطالب المتعصب. إيران والمملكة السعودية ليستا مسؤولتين عن نزق اللبنانيين الكثيرين ورعونتهم. إيران والسعودية كلاهما على حق، كل منهما يعمل لما يرى فيه مصلحة لبلاده، بمعزل عن رأينا بتلك المصالح. كل منهما يمسك طرف حضارة مزعومة أو موهومة، ويحاول أن ينشر وهجها على بقعة متخيلة. بعض اللبنانيين مسؤول عن ابتياع الأوهام وعن تحويل الاعجاب إلى تبعية والتبعية إلى عمالة. وبعضهم مسؤول عن بيع سيادة بلاده بأرخص الأثمان.
تخيلوا لو أن الأميركيين انقسموا بين موالٍ لروسيا ومعارض، أو لو أن الفرنسيين أو البريطانيين انقسموا في مواجهة قوة خارجية. تخيلوا لو أن نصف اليابانيين هللوا لقصف بلادهم بالقنابل النووية. نعم إنهم لبنانيون، استدرجوا الخارج واستخدموا سلاحه وأطلقوا منه النار على أبناء وطنهم. إستسهلوا أن يتوزعوا على جبهات الحروب الخارجية، وأن يكونوا وقوداً لها، وأن يكونوا مطية لمشاريع سواهم.
نعم، إنهم لبنانيون، أقلية من شعب، لكنها أقلية حاكمة. اللبنانيون، كشعب، مفخرة شعوب الكرة الأرضية، برعوا منذ أصولهم الفينيقية حتى آخر الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والفنانين المنتشرين في أربع أرجاء الأرض. اللبنانيون، كشعب، انتصروا على الغزاة الصهاينة وأخرجوهم ودحروهم، وانتصروا على نظام الوصاية السوري وأخرجوه ذليلاً. السياسيون هم الذين يقطفون ثمرة النصر ويبتاعون بثمنها انصياعاً لأول أجنبي يصادفونه على الحدود أو يبحثون عنه في خزائن المال أو على خرائط الأوهام السياسية.
لم يعرف لبنان، قبل أن يصير وطناً ولا بعد أن صار، ساسة بصغارة الممسكين بزمام الأمور اليوم، القابضين على حروف الأبجدية السياسية، سين سين وسين ألف وألف راء وكل الحروف الحسنى ، الذين يتمنون لو يشطبوا حرف اللام حتى لا يجد الوطن حرفاً يستهل به اسمه. نصف بلادنا مع السعودية وتوافدوا للاعتذار بمذلة عن خطأ لم يرتكبوه، ونصفهم المرتكب مع إيران شتّام لخصومه وخصومها. إيران والسعودية على حق، لأن لكل منهما أوهامه. إحداهما تريد أن تحيي من التاريخ عظام حروب دينية بائدة، والثانية تبذل الغالي والنفيس لتتفادى كأس ربيع آت كالقدر ليفتح الباب واسعاً أمام تداول السلطة وقلب صفحة الاستبداد وأنظمة "إلى الأبد".
هي دول وأنظمة تسعى إلى ما ترى فيه مصالحها السياسية أو الدنيوية أوالدينية، أما سياسيو لبنان فهم وحدهم الذين يعملون لمصلحة سواهم. أنهم هم الدلّال الذي يجعل سيادة الوطن سلعة للبيع.