إذا كانت الحدود اللبنانية ـ السورية الشرقية، عبر بوابة المصنع في البقاع الاوسط،، تشكل معبراً للاتجار بالبشر، وتهريبهم الى الداخل اللبناني، فإن الحدود الشمالية في البقاع الشمالي، تستحوذ من خلال معبر القصير، على التهريب عبر قوافل الشاحنات التي تدخل الحدود اللبنانية يومياً، وتحمل الأطنان من المنتجات الزراعية والصناعية «المهربة» الى الداخل اللبناني ولا من يعترضها.
تهريب موثق بالتقارير
لا تتطلب روايات تهريب البضائع الصناعية والزراعية، التي تشكو منها مختلف القطاعات الإنتاجية اللبنانية، وخصوصاً البقاعية، تأكيدات أو إثباتات أو إفادات من شهود عيان أو دلائل، فهذا التهريب المزمن عمره يزيد عن تاريخ ترسيم ما أمكن من نقاط حدودية بين لبنان وسوريا، والأهم أن هذا التهريب موثق في كل تقارير الأجهزة الأمنية، بدءاً من الجيش اللبناني ومديرية مخابراته، وصولاً الى قوى الامن الداخلي، وانتهاء بجهاز الضابطة الجمركية المولج بمكافحة ظاهرة التهريب.
لا أحد، في الوقت الراهن، يستطيع أن يعترض مسار قوافل تهريب البضائع، حيث يُسجل يومياً عبور عشرات الشاحنات التي تحمل الأطنان من البطاطا والالبان والاجبان والحليب والأغنام والمواشي والبيض والدجاج والخضار والألبسة والدخان. والأخطر في حكايا التهريب ما خلصت اليه مختلف الأجهزة الأمنية التي أشارت في عدد من تقاريرها إلى «استحالة مكافحة هذا التهريب»، فالقائمون به يملكون مقومات وبنى تحتية تفوق كل تجهيزات الأجهزة الأمنية، كما أن هذا التهريب مشرّع من خلال الإهمال الرسمي المزمن، وترك الحدود اللبنانية ـ السورية سائبة من دون وجود أمني رسمي لبناني فاعل منذ زمن طويل.
معابر التهريب
ينشط التهريب على تخوم القرى والمناطق اللبنانية المتداخلة مع القرى والبلدات السورية، بدءاً من قرى البقاع الغربي وراشيا، وصولاً الى مناطق البقاع الشمالي. وينشط خط التهريب اليومي عند منطقة حلوى المتداخلة مع الجانب السوري مباشرة، فيما تسجل إجراءات أمنية وعسكرية ترتبط بمسار الأحداث السورية، وخصوصاً على المعابر التي تربط محور شبعا وقرى راشيا والداخل السوري، الأمر الذي أدّى الى نأي المهربين عن سلوك هذه المعابر والاستعاضة عنها بمعابر أخرى تشبه المعابر المشرّعة في منطقة الصويري، التي تحاذي وتجاور الحدود اللبنانية ـ السورية في منطقة المصنع، ويعد معبر الصويري من أكثر المعابر نشاطاً في أنواع التهريب كافة، إن كان على صعيد تهريب «البشر» من النازحين السوريين أو السلع الزراعية والصناعية.
إلى جانب معبر الصويري، يرتسم خط التهريب عند معابر بلدتي مجدل عنجر وعنجر وواديها، وهو الأكثر شهرة في مجال حكايا التهريب المشرّع والمحمي مالياً.
في ما مضى اقتصرت حكايا تهريب قوافل صهاريج المازوت وغيرها على وادي عنجر، لكنه اليوم يشهد تراجعاً كبيراً وصل الى حدود العدم، ومرد هذا التراجع الى الإجراءات الأمنية والعسكرية من الجانبين اللبناني والسوري.
شركة دفاعية لبنانية ـ سورية
يتشارك أغلب سكان القرى الحدودية اللبنانية المتداخلة مع الجانب السوري، في الدفاع عن «مهنة التهريب» التي فرضها الواقع الجغرافي، وتوارثها الآباء عن الأجداد وصولاً الى الابناء، ولا تزال حتى اليوم، وستبقى هذه المهنة رائجة بفعل الواقع الجغرافي والإغراءات المالية.
استفاق المئات من سكان هذه القرى منذ وعيهم على «مهنة التهريب» وإن كانوا يرفضون اعتبار عملهم اليومي في هذه المهنة بالإطار غير الشرعي أو غير القانوني، بل يعتبرونها اكثر من شرعية وقانونية، حسب أحد أبناء الصويري الذي يتحدث عنها وكأنها عمل في إحدى المؤسسات الرسمية أو الخاصة، وهي فرصة عمل متوفرة، على عكس ما يحرموننا منه من فرص العمل الأخرى في المؤسسات الرسمية والخاصة، التي يندر وجودها في البقاع.
أحداث سوريا أضرّت بالتهريب
الأحداث السورية تسببت بضرر كبير في «اقتصاد» التهريب وواقعه، الذي كان رائجاً منذ قديم الزمان، ومسلسل التراجع الذي طرأ على خط التهريب، وخصوصا في البقاعين الاوسط والغربي، بدأ العام 2005 عند خروج القوات السورية من لبنان، وما تلاه من توتر سياسي بين لبنان وسوريا، الأمر الذي انعكس سلباً على واقع المهربين في البلدين.
قبل العام 2005 عرفت المناطق الحدودية في البقاع عصرها الذهبي في مجالات التهريب على اختلاف أنواعه بدءاً من التنباك والتبغ والغاز والمواد التموينية والتنظيفية والادوية واللحومات والدجاج، وصولاً الى ممالك المازوت العابرة للحدود اللبنانية ـ السورية، من خلال أنابيب تمتد ما بين القرى السورية ووادي عنجر، وكانت تضخ هذه الأنابيب ملايين الليترات من المازوت السوري في خزانات أرضية تقع في الجانب اللبناني عند وادي عنجر، الذي لا يزال يحتفظ ببقايا هذه الأنابيب والخزانات التي يأكلها الصدأ.
عشرات ملايين الدولارات
في العصر الذهبي، وصلت ميزانية المهربين وتداولاتهم المالية الى ما يزيد عن عشرة ملايين من الدولارات في اليوم الواحد، وكانت نسبة غير متواضعة من هذه الميزانية تذهب الى جيوب من يُطلق عليهم «حماة التهريب» من أمنيين وعسكريين وسياسيين في الجانبين اللبناني والسوري على شاكلة إكراميات.
انتهت حكاية أنابيب المازوت وتهريب السودانيين والأفارقة، عبر وادي عنجر، وحل محلها سوريون لجأوا الى طرق التهريب للدخول الى لبنان، وتقتصر حالياً روايات التهريب عند الحدود الشرقية على الأفراد من النازحين السوريين، كما هي الحال في هذه الأيام.
التهريب عند معابر البقاع الشمالي انتعاش ملحوظ
في السياق ذاته، شكلت الأحداث السورية وما رافقها من تطورات عسكرية، انتعاشاً للتهريب على خط منطقة القصير، ومعبرها الواسع جداً عند أقصى البقاع الشمالي، الذي يتصدّر هذه الأيام المرتبة الاولى في روايات التهريب «الاقتصادي»، من خلال دخول عشرات القوافل والشاحنات التي تحمل منتجات صناعية وزراعية وألبسة ومواد غذائية.
يقدّر بعض المزارعين دخول عشرات الأطنان من المنتجات الزراعية المتنوّعة الى لبنان، ما يزيد من واقع الصعوبات الاقتصادية اللبنانية في ظل توقف حركة التصدير اللبنانية الى الخارج وتحديداً العالم العربي.
معابر القصير والقاع الحدودية «سائبة»، حسب توصيف بعض المزارعين الذين يكتوون يومياً من جراء هذا التهريب الذي انتعش بفعل مجريات الأحداث السورية.
قوافل البيض والخضار والفاكهة تدخل عبر معابر القصير والبقاع الشمالي، وهذا ما يُبرّر تراجع أسعار هذه السلع ويتم توزيع حمولات هذه الشاحنات على عربات وعلى بسطات، يلاحظ تكاثرها على امتداد قرى البقاع.
يعترف الكثير من الأجهزة الأمنية في البقاع بواقع صعب، يجعل مكافحة التهريب من «المستحيلات»، وهذه عبارة وردت مراراً في كل التقارير الأمنية التي أرسلت الى بيروت.
ما يعزز التهريب في البقاع الشمالي عدم وجود جهوزية بشرية امنية وعسكرية، يضاف اليها نقص كبير في العتاد والتجهيزات اللوجستية وخصوصاً السيارات.
من المفارقات المأساوية افتقاد منطقة البقاع الشمالي، ولو لضابط واحد في جهاز الجمارك اللبنانية، الذي ينتشر انتشاراً متواضعاً جداً عبر ثلاثة مراكز في بعلبك وعرسال والقاع. اللافت للانتباه أن المراكز الثلاثة تفتقد التجهيزات المطلوبة، وتحتاج إلى السيارات والآليات لمكافحة التهريب وملاحقته، ومثال على ذلك ان مركز الجمارك في عرسال لا يملك اية سيارة من أجل القيام بالدوريات المطلوبة، بعدما قام عناصر من «تنظيم داعش» بسرقة سيارة الجيب الوحيدة التي كانت بحوزة هذا المركز الذي يضم فقط 8 عناصر، مطلوب منهم القيام بالمكافحة والحراسة والقيام بالأمور اللوجستية والادارية في هذا المركز الذي يصل نطاقه الإداري الى عشرات الكيلومترات.
تحتاج مراكز البقاع الشمالي إلى سيارات وشاحنات للمداهمة والدوريات. لا يتوفر في مركزي بعلبك والقاع سوى سيارة واحدة لكل مركز وهي بحالة متوسطة. في المقابل، فإن واقع عديد العناصر والكادر البشري ليس أفضل حالاً من واقع التجهيزات، فكل مراكز جمارك البقاع الشمالي لا تضم اكثر من 70 عنصراً، فيما يضم معبر المصنع الحدودي وحده أكثر من 123 عنصراً، وهو ليس بحاجة الى أكثر من 50 عنصراً في الحد الأقصى.
حسب التقارير الأمنية، فإن منطقة البقاع الشمالي تفتقد الجهوزية الأمنية والعسكرية واللوجستية المولجة مكافحة ظاهرة التهريب.