لعل أهم ما في الاتفاق الروسي الاميركي على وقف الاعمال العدائية في سوريا إعتباراً من نهاية الشهر الحالي، هو أنه أول وأوضح إشارة روسية الى ان الكرملين ليس في وارد المضي قدما في الحرب لحساب نظام الرئيس بشار الاسد حتى النهاية، او حتى إسترداد كامل الاراضي السورية من المعارضة، حسب جدول الاعمال الذي حدده الرئيس السوري نفسه الاسبوع الماضي.
الاتفاق تعبير أولي عن أن موسكو تعبت من الحرب، التي لم تشكل تحدياً عسكرياً جدياً لها، لكنها كشفت للروس بعد خمسة أشهر على بدء الحملة الجوية والصاروخية المدمرة على جميع جبهات المواجهة السورية، حدود القوة العسكرية الروسية، وأقصى ما يمكن أن تحققه في معارك كان الحسم فيها صعباً، فثبت الآن بما لا يدع مجالاً للشك انه مستحيل.. وهو لا يقاس من الجو، إنما على البر. الاستنتاج ان الحملة العسكرية الروسية بلغت ذروتها، هو ما دفع الكرملين الى إقتراح الهدنة، في الوقت الذي كانت قواته قد حققت في الاسابيع القليلة الماضية إختراقات عسكرية مهمة، ضد المعارضة السورية على اختلاف تشكيلاتها، وردت الروح الى النظام السوري، ورفعت معنوياته وشروطه اكثر من اي وقت مضى منذ بدء الازمة قبل خمس سنوات.
منذ البداية، قيل ان روسيا كانت تخطط لمثل هذه الحملة بحيث تتراوح بين ثلاثة وستة اشهر لا أكثر، لتسترد المبادرة من الجميع في سوريا، من النظام المتهالك اولا ، ومن ايران المستنزفة ثانيا، ثم من الاميركيين والاتراك والخليجيين العرب الذين لم يتمكنوا على مدى سنوات الازمة الخمس من توفير بدائل سورية ملائمة للنظام، ومن تقديم مخارج سلمية مناسبة من الحرب الطاحنة في سوريا. ثمة إعتقاد بان الهدنة التي توصلت اليها روسيا مع الاميركيين وتحمس لها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى حد وصفها بانها شبيهة بالاتفاق الروسي الاميركي قبل عامين على نزع الاسلحة الكيميائية السورية، ليست سوى استراحة محارب يريد ان يستطلع ما حققته الموجة الاولى من حملته العسكرية من آثار في صفوف الاعداء ويسكتشف مدى استعدادهم للاستسلام قبل ان يستأنف غاراته الجوية والصاروخية، التي لم ولن تتوقف أصلاً، قبل الهدنة وبعدها، لكنها يمكن ان تصبح أكثر دقة في إختيار المواقع المعادية، وأقل وحشية في استهداف المدنيين، وأكثر هدوءاً في التعامل الثأري مع الاتراك.
مع ذلك فان الهدنة، في صيغتها الحالية المتواضعة والملتبسة هي نقطة تحول في المسار العسكري والسياسي الروسي، تتعارض في حدنها الادنى مع الرغبات المعلنة لنظام الاسد الذي كان ولا يزال يتمنى ان تواصل الآلة العسكرية الروسية سحق معارضيه السوريين، ولا يتورع عن التوق الى توسع الصراع الى حرب روسية مباشرة مع تركيا والسعودية وقطر، او حتى الى حرب عالمية تستخدم فيها الاسلحة النووية، وتضمن نهايتها الظافرة للروس بقاءه الى الابد.
الثابت ان موسكو لم تضع النظام في جو الاتفاق على الهدنة، ولم تبلغه بتفاصيلها إلا لاحقاً، بل هي عمدت الى توبيخه علناً على قوله انه ماضٍ في الخيار العسكري حتى استعادة السيطرة على كامل الاراضي السورية، لأنها تعرف ان حلفاءه الايرانيين واللبنانيين والعراقيين هم الذين كان لهم دور حاسم في الانتصارات التي تحققت في محيط مدينة حلب، والتي يدرك الروس والاميركيون معاً أنه، لا يمكن الاحتفاظ بها طويلاً في وجه حشود من المعارضين المتأهبين للقتال الضاري عندما يغيب الطيران الحربي من السماء. المؤكد ان ثمة شرخاً جديداً حصل في العلاقة غير السوية بين الكرملين وبين الاسد الذي عبر على طريقته الخرقاء عن إستيائه من السلوك الروسي بالدعوة، في اليوم التالي للاعلان عن الهدنة، الى إجراء الانتخابات النيابية السورية في موعدها “الدستوري” في 13 نيسان ابريل المقبل، مخالفاً بذلك التفاهم الروسي الاميركي على البحث عن فرص للحل السياسي. لكنه سرعان ما اضطر، بعد أقل من 24 ساعة( إثر توبيخ روسي جديد ربما) الى إعلان إلتزامه بالهدنة، التي تنص أساساً على أن يكون النظام هو أول الملتزمين بها. الهدنة ليست نهاية الحرب السورية، بل بداية طور جديد منها. قالت روسيا كلمتها الاولى، التي رسمت بموجبها الحدود النهائية للمواجهة العسكرية.. والتي ترجمها الاميركيون بالاعلان ان تقسيم سوريا بات حتمياً.