يستهدف النظام السعودي من حملته على اللبنانيين إرباك حزب الله. لكن حتى اليوم، لم تُربك هذه الحملة سوى حلفائه الذين لم يتمكنوا بعد من اكتشاف ما يمكن فعله لإرضاء النظام. فحتى ليل أمس، لم تُفتح أمامهم قنوات اتصال حقيقية بحكام الرياض أو أبو ظبي، لمعرفة المطلوب منهم والخطوات اللاحقة

 

الحيرة التي تعيشها القوى الموالية للنظام السعودي في لبنان، لا تعكس قصر الحيلة وحسب، بل تظهر أيضاً الارتباك الناجم عن عدم فهم المطلوب منها بدقة. تصرفات وطلبات حكومة الرياض، لا تتبع مساراً محدداً يمكن معه التنبؤ بخطوات لاحقة، وإن تبين أن هذه التصرفات لا تحظى بغطاء كامل من جانب الولايات المتحدة. وبدا أن الرياض «أُصيبت بخيبة أمل لأنها كانت موعودة ببيان اعتذار علني من الحكومة». تُرجمت الخيبة غضباً على القوى الموالية لها، فعمد الرئيس سعد الحريري إلى اختراع «العريضة الشعبية»، كبديل على المستوى السياسي، وانطلقت ماكينة لحشد الوفود الشعبية والسياسية باتجاه مقر السفارة السعودية في بيروت. جرى تدارس إمكان إطلاق «يوم غضب» يكون عبارة عن مسيرات واعتصامات في بيروت وعدد من المدن اللبنانية. تردد أن الحريري بادر خلال الأيام الماضية إلى توفير تمويل خاص، كاحتياط قد يضطر إلى إنفاقه إن احتاج إلى حشود شعبية كبيرة.

السفير السعودي علي عواض العسيري طالب بالمزيد. لم يُرضِه أداء «الحلفاء»، فخرج أمس مهدداً، بلغة دبلوماسية إلى حدٍّ ما، بطرد لبنانيين من الخليج. قال: «أتمنى ألّا نصل إلى هذه المرحلة (الطرد) وأن يتخذ إجراء من الحكومة اللبنانية يرضي المملكة العربية السعودية وينهي المشكلة».
لكن القوى الموالية للسعودية في لبنان لا تزال عاجزة عن فهم ما تريده «المملكة» لتخفيف غضبها. هل المطلوب اعتذار من الرياض بسبب عدم تأييد سياستها في المنطقة؟ أم تعهّد بوقف «التعرض» كلامياً للنظام السعودي؟ أم المطلوب استقالة وزراء 14 آذار من الحكومة أسوة بما فعله الوزير أشرف ريفي؟ في 14 آذار، لم يظهر بعد من يملك إجابات عن هذه الأسئلة. لا السعودية قدّمت مطالب واضحة للرئيس سعد الحريري، ولا هو تمكن من «التقاط» ما تريده، أو سقف تصعيدها. زاد من الحيرة أداء العسيري مع ريفي، إذ تبيّن أن السفير السعودي هو من طلب من الوزير المستقيل زيارته، يوم افتتاح موسم «الحج التضامني» إلى السفارة (وهو ما أثار حفيظة عدد من مسؤولي تيار المستقبل). ورغم ذلك، يؤكد الحريري أن استقالة ريفي هي من بنات أفكاره، ولا تحظى بأي تغطية سعودية.


لقاء بين مسؤولين
من المردة والتيار الوطني الحر لتعزيز العلاقة بين الطرفين

تجزم مصادر سياسية رفيعة المستوى من فريق 8 آذار بأن «الجنون السعودي لن يؤدي إلى تغيير في موازين القوى اللبنانية الداخلية، باستثناء إضعاف قوى 14 آذار، وعلى رأسها الحريري. فأي إجراءات عقابية بحق لبنانيين في الخليج ستؤدي إلى مزيد من الالتفاف حول حزب الله في بيئته، حسبما أثبتت التجارب السابقة. والعقوبات المالية على لبنان ستصيب الموالين للسعودية بالدرجة الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إسقاط الحكومة، فإنها ستُضعف موقع حلفاء الرياض في السلطة. وأي توتير أمني سيرتد سلباً على تيار المستقبل».
وتلفت مصادر «وسطية» إلى أن «مشاهد استجداء السعوديين استفزت شرائح كبيرة من اللبنانيين. ووصل الاستفزاز إلى داخل بيئة 14 آذار، وخاصة بين مؤيدي الأحزاب المسيحية». وضاعف درجة الغموض أمس قبول الحريري بالمشاركة في جلسة الحوار الثنائي مع حزب الله، التي يرعاها الرئيس نبيه بري في عين التينة. ورغم أن الحوار انعقد ثلاثياً (اقتصرت المشاركة على المعاونين السياسيين لكل من بري، الوزير علي حسن خليل؛ وللأمين العام لحزب الله، الحاج حسين الخليل؛ وللرئيس الحريري، نادر الحريري) إلا أن مجرد انعقاده كان حدثاً بحد ذاته، في ظل التصعيد الذي سبقه. وانعكس هذا التصعيد على مضمون جلسة الحوار، التي لم تتطرق، بحسب مصادر المشاركين، إلى رئاسة الجمهورية والملفات الداخلية الأخرى.
الإشارات السلبية لا تزال تصدر من الرياض، ما يزيد من إرباك الحلفاء. ففيما رفضت السعودية تحديد موعد لاستقبال رئيس الحكومة تمام سلام، لمّح حلفاء النظام السعودي في أبو ظبي أمس إلى أنهم سيتخذون قراراً بوقف الرحلات الجوية من الإمارات العربية المتحدة إلى بيروت. لكن مستشار الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، قال أمس للبنانيين يتواصل معهم إنه قاد مسعىً أقنع بنتيجته حكام أبو ظبي بوقف هذا الإجراء. ولم يُعرف ما إذا كانت مبادرة دحلان ذاتية، أو أنها بطلب أميركي. ولحقت قطر والكويت بكل من السعودية والإمارات والبحرين، فأعلنتا أيضاً مطالبة رعاياهما بمغادرة لبنان وعدم السفر إليه.
وفي ظل هذا التصعيد، علمت «الأخبار» أن قيادات بارزة في فريق 14 آذار سمعت تحذيراً أميركياً «من خطورة فرط الحكومة» التي ستعقد جلسة عادية لها اليوم. وفيما تلقى الحريري نصائح من النائب وليد جنبلاط والرئيس بري بعدم الذهاب بعيداً، طلبت جهات بارزة في 14 آذار، تدخل الجانبين الأميركي والفرنسي مع القيادة السعودية لأجل الحد من التصعيد. وبادر الحريري إلى تحذير كل قيادات المستقبل أو قوى 14 آذار من المبادرة إلى خطوة دون التنسيق معه. فعل ذلك، مثلاً، بتعمّده تجاهل استقالة ريفي، ومنع مناقشتها في الاجتماع الموسع لقوى 14 آذار، والطلب إلى الرئيس سلام قبولها فوراً، ومناقشة الآلية الدستورية التي تتيح تعيين وزير بديل (يُطرح اسما القاضي سهيل بوجي والنائب سمير الجسر)، بينما طلب إلى النائب معين المرعبي عدم توفير أي دعم لريفي، وهو الطلب نفسه الذي وجه إلى نشطاء المستقبل في طرابلس والشمال. حتى إن ريفي صُدم بأن التضامن معه طرابلسياً كان «فقيراً» جداً، واقتصر على قلة من أهل المدينة، فيما رفض أبناء التبانة التضامن معه، وأعادوا تذكيره بأنه وفّر الغطاء لتوقيف من لا يزالون في السجن من أبناء المنطقة.
وفي ظل تعذّر التواصل المباشر مع القيادات الرئيسية في الرياض وأبو ظبي، تولى بعض مسؤولي 14 آذار «توقّع» أن يكون مسار الإجراءات السعودية وفق الآتي:
ــ إعلان وقف العمل بالهبات المخصصة للقوى العسكرية والأمنية (متوقفة أصلاً).
ــ دعوة الرعايا إلى مغادرة لبنان، ثم منعهم من السفر إليه، ثم الطلب إلى شركات الطيران وقف الرحلات التجارية إلى بيروت بصورة تدريجية. والعمل على منح أعضاء البعثات الدبلوماسية لدول مجلس التعاون إجازات واستدعاء السفراء إلى بلادهم.
ــ إبلاغ رجال أعمال بارزين في لبنان، ومن طوائف مختلفة، قرار عدم تجديد عقود العمل لهم، وعدم تجديد الإقامات للعاملين معهم. وجرى التهويل على البعض في أبو ظبي والمنامة والرياض، من خلال إبلاغهم من طريق رجال الأعمال المحليين هناك بأن القرار لن يقتصر على الشيعة، وأنه سيصيب بالتأكيد المسيحيين، ولن يكون تمييز بين مناصري التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، خصوصاً بعد الغضب المستجد على سمير جعجع «الذي ذهب بعيداً في تبني ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية، والعمل على شق طريق نحو علاقات مميزة مع إمارة قطر كبديل مادي من السعودية»، بحسب أحد أقطاب 14 آذار.
ــ إطلاق حملة إعلامية من خلال وسائل الإعلام السعودية والإماراتية تركز على أن «لبنان قد خطف من قبل حزب الله وأن على اللبنانيين المبادرة إلى الانتفاضة».
على صعيد آخر، اجتمع أمس في أحد مطاعم بيروت، نواب ووزراء وشخصيات من التيار الوطني الحر والمردة والطاشناق. وضمت «الجلسة» كلاً من الياس بو صعب، ناجي غاريوس، نقولا صحناوي، سيمون أبي رميا، زياد أسود، روني عريجي، يوسف سعادة، هاغوب بقرادونيان، مروان بو فاضل، إميل رحمة، والمحامي سليمان فرنجية، بحضور قيادي من حزب الله. ولفتت مصادر الاجتماع إلى أن «الجلسة» لم تشهد أي حديث في ما يتعلق بالملف الرئاسي، وأن هدفها كان تعزيز العلاقة بين مسؤولي التيار الوطني الحر والمردة.