بعد استقالة الرئيس نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة في مارس 2013، كان التوجه في بعض قوى 14 آذار يميل لترشيح اللواء أشرف ريفي لرئاسة الحكومة، وكان هذا الرأي يجد مباركة الأمير بندر بن سلطان (رئيس المخابرات السعودية في ذلك الوقت)، لكن بعض الساسة اللبنانيين الذين يصنفون أنفسهم في موقع الوسط نصحوا بترشيح النائب تمام سلام، وهو ما تم بالفعل بعد الاجتماع الثلاثي الشهير “بندر – سعد الحريري – وليد جنبلاط”، وبالمناسبة فإن المرشح الأساس لوزارة الداخلية كان النائب البقاعي المحنك جمال الجراح، لكن اللحظة الأخيرة قدمت الوزارة على طبق من ذهب للنائب البيروتي اللامع نهاد المشنوق.
إذا سألت أصدقاءنا في تيار المستقبل عن رأيهم في الحكومة الميقاتية ستسمع “السبعة ودمتها”، ومن ذلك ما كتبه رضوان السيد “ظلّت الفتنة مشتعلة في طرابلس رغم أّن ميقاتي منها٬ وما أمكنه إقناع الحزب والأسد بإيقاف ذلك الخراب. وفي ظل تلك الحكومة العتيدة استمرت الاغتيالات أو جرت العودة إليها٬ فاغتيل اللواء وسام الحسن٬ والوزير الدكتور محمد شطح. وفي ظل تلك الحكومة الماجدة أيضا اندفع نصرالله لمساعدة الأسد في الحرب على الشعب السوري٬ فغزا بلدة القصير السورية٬ وقال إنه لم يفعل ذلك إلاّ لمقاتلة التكفيريين الذين انتهكوا مقامات ومزارات أهل البيت٬ والقصير بلدةٌ سنيٌة لا مقامات لأهل البيت فيها. وبنتيجة تلك الغزوة الميمونة للقصير وما حولها٬ لجأ عشرات الآلاف من السوريين المساكين إلى بلدة عرسال اللبنانية٬ وعاد الحزب للتهديد بغزوها بدورها لتطهيرها من الإرهابيين!”، وحمل السيد تلك الحكومة مسؤولية ضغط الأجهزة الأمنية على شباب المسلمين ما أدى إلى ظهور الانتحاريين في أوساطهم، وحملها أيضا مسؤولية غض الطرف عن تأسيس ما يسمى بسرايا المقاومة التي تفننت في إذلال المواطنين على مرأى ومسمع الأجهزة الأمنية.
لست هنا بصدد الدفاع عن ميقاتي ولا أريد، لكن ما رأيناه من أداء رئيس الحكومة الراهن تمام سلام ربما يدفع أصدقاءنا المستقبليين إلى الترحم على أيام ميقاتي.
الرئيس سلام ينتمي إلى بيت سياسي عريق ومحترم، والرئيس نفسه لا يمكن التشكيك في خلقه ونزاهته، لكن مواصفات “تمام بيك” ليست كافية ليصنف من رؤساء الحكومة الناجحين، فالتردد أو التخوف الذي لازم أداءه رئيسا للحكومة جر على لبنان الكوارث، لو تحدثت بداية عن طريقة إدارته لمرحلة الفراغ الرئاسي بل ولمنهجيته في عقد مجلس الوزراء، فالنتيجة أمامنا هي تفريط صريح في مقام المقعد السني الأول وبصلاحيات رئيس الحكومة، لقد شاهدنا في مقعده قبله كلا من نجيب ميقاتي وسعد الحريري وفؤاد السنيورة، وليس فيهم من أفرغ رئاسة الحكومة من مضمونها كما فعل سلام، وهذا التفريغ ساهم في دعم سياسة قوى 8 آذار بشل الدولة وتعطيل مصالح البلاد والعباد.
فلننظر إذن إلى طريقته في إدارة الأزمات، إننا أمام كارثة بكل معنى الكلمة، أزمة النفايات، مثلا، التي لم تحل إلى اليوم يتحمل جزءا من مسؤوليتها سلام، وإذا تطرقنا إلى أزمة العلاقات السعودية – اللبنانية فرئيس الحكومة مسؤول عن هذه الأزمة تماما كوزير الخارجية جبران باسيل، فكل من في لبنان أصبح يعلم أن باسيل شق الإجماع العربي حول إدانة الاعتداء على البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران بعد التنسيق مع سلام وأخذ موافقته.
اتخذت السعودية قرارها بإيقاف المساعدات للأجهزة الأمنية بعد أن طفح الكيل، شق الإجماع العربي الذي لم يجرؤ عليه العراق الموالي تماما لإيران، تطاول سرايا المقاومة، وغيرها، على السنة، وقيام أمين عام حزب الله باستهداف دول الخليج قولا وسلوكا.
ماذا أرادات السعودية أن تقول؟ هي لا تريد تسليم لبنان لإيران لكنها لن تخوض معركة اللبنانيين نيابة عنهم، فهي داعم ومساعد، ومن جهة أخرى نفد الصبر السعودي من تخاذل حليفتها (قوى 14 آذار) واستضعافها لنفسها، وفي الوقت نفسه قال القرار مواربة: نحن نحارب إيران في اليمن وسنحاربها في سوريا، وعلى اللبنانيين ألا يتركوا لبنان واحة مريحة وآمنة لعملاء إيران.
للأسف جاء تفاعل قوى 14 آذار أقل من مستوى الحدث، كانت السعودية تنتظر الموقف فصعقها بيان، وفي اليوم التالي تمخضت الحكومة فولدت فأرا، وأول من شعر بذلك هو الرئيس سعد الحريري فحاول تغطية الاهتزاز “السلامي” ببدعة مثيرة للشفقة، وثيقة يوقعها اللبنانيون تضامنا مع السعودية!، وكأن قوى 14 آذار لم تدرك أن السعودية تغيرت، والتعامل مع السعودية الجديدة بمنطق السعودية القديمة غير مجد إطلاقا.
هذه فرصة أخيرة لقوى 14 آذار، إما أن تثبت جدارة بقائها وإما أن تغلق غير مأسوف عليها، من قاد معركة الاستقلال الثاني ضد الوصاية السورية يستطيع أن يخوض معركة الاستقلال الثالث ضد الوصاية الإيرانية، وإن لم يستطع فلينصرف، ونحن نتحدث بوضوح عن حل رباعي: إيقاف الحوار الترفيهي أو الصوري بين حزب الله وتيار المستقبل، إلغاء المبادرات الرئاسية، إنهاء الحكومة، والنزول إلى الشارع.
لقد قدمت 14 آذار كل تنازل ممكن بترشيح حلفاء الحزب الإلهي إلى رئاسة الجمهورية، وهذه المبادرات أثبتت فشلها الذريع بدليل استمرار الفراغ، والقرار السعودي المدعوم خليجيا رسالة عربية للبنان بأنه لا مجال لرئاسة ميشال عون رغم أن بعض أصدقائنا اللبنانيين لا يريدون تصديق ذلك، فحين أصبحت وزارة الخارجية في عهدة فريقه السياسي وتر انتماء لبنان ببعده العربي فماذا سيفعل لو دخل قصر بعبدا؟ وهنا انتهز الفرصة لشكر وزير الخارجية جبران باسيل الذي أدت تصريحاته عقب البيان الحكومي إلى إلغاء أي مجال للتراجع عن الفيتو العربي على حميه.
حين استعاد ميقاتي نظرية “النأي بالنفس”، قصد أزمة الثورة السورية بين نظام ومعارضة، لكن التذاكي العوني قلبها بين عرب وإيران، وهذا التذاكي الذي يجد هوى في بعض الشارع المسيحي هو الأساس الفلسفي للأزمة الأخيرة، وسيتطور، في حال استمراره، إلى ما لا يحمد عقباه.
المقترح المنطقي، هو أن تضع قوى 14 آذار سقفا زمنيا لترشيح عون وفرنجية وإلا فإسقاط هذه الترشيحات لمصلحة أحد وجوه قوى 14 آذار، لقد جعل القرار السعودي غطاء عربيا لضرورة وجود قوى 14 آذار أو ما يشبهها في قصر بعبدا وفي السراي الحكومي، وإلا فإن العقوبات وسحب الثقة سيتوالى من دولة خلف دولة في قطاع وراء قطاع، وبهذا المنطق ليس من الضرورة استجداء عملاء إيران لتأمين نصاب انتخابات الرئاسة وانتظام مؤسسات الدولة، فمن لا يستطيع الوصول إلى بعبدا من ساحة النجمة يصل من ساحة الشهداء.
من الواضح أن القرار السعودي هز عملاء إيران في لبنان، لقد اكتشفوا فجأة انكشافهم العربي، وقبل ذلك اكتشفوا انكشافهم الدولي بالعقوبات والضوابط المصرفية الأميركية بعد توقيف عناصر من حزب الله في أميركا وأوروبا بسبب تبييض الأموال والاتجار بالمخدرات، ولو نزلت قوى 14 آذار إلى ساحة الشهداء سيكتشف العملاء انكشافهم المحلي، كما سيكتشف الاستقلاليون قوتهم التي تفوق تصوراتهم المتخاذلة، والحقيقة أنني سعدت بتصريح وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي أعلن فيه عن نزول قريب إلى الشارع، وليت سعد الحريري بعد اجتماع بيت الوسط أعلن سبب تعثر هذه الخطوة.
في ظل الانكشافات المحلية والعربية والدولية لقوى 8 آذار، يصبح الحوار السخيف بين تيار المستقبل وحزب الله بلا أي جدوى أو مبرر، وهو كذلك من الأساس، وتصبح فزاعة الدعوة إلى المؤتمر التأسيسي، التي يروجها الحزب الإلهي عبر أبواقه التافهة، غير منطقية مطلقا، لذلك وبعد كل ما جرى، يفترض من الرئيس تمام سلام أن يتخذ قرارا شجاعا لمرة واحدة، فليعلن أنه سينهي حفلة التكاذب، وليسقط آخر مظاهر شرعية حزب الله، عبر استقالته من رئاسة الحكومة في حال إصرار الحزب الإلهي على تعطيل الدولة وشلها، وإن لم يفعلها سلام، كما هو متوقع، فلتفعلها قوى 14 آذار على خطى الوزير أشرف ريفي.
السعودية اليوم هي سعودية أفعال، وإذا استمرت قوى 14 آذار في الاكتفاء بالأقوال فلتتحول إلى جمعية ثقافية لتدبيج البيانات أو جمعية خيرية لتسول الدعم، إنها اللحظة التاريخية لتحقيق أهداف ثورة الأرز، وإذا لم يقم اللبنانيون بخلع شوكهم بأيديهم لن يقوم أحد بتدليلهم، سقوط لبنان في يد إيران سينهي لبنان وسيلغي قوى 14 آذار وشعبها، واللحظة التاريخية مواتية لاستعادة زمام المبادرة والسيطرة على الموقف بدعم سعودي وخليجي وعربي، لكن ردود الفعل ليست على مستوى الحدث، والمتسبب بذلك لن يرحمه التاريخ بعد أن يسحقه حزب الله.
أحمد عدنان
المصدر: العرب