تعاد هذه الأيام وبقوة ومن مصادر قريبة من صناع القرار الأميركي معلومات السعي إلى إجراء تغييرات جوهرية في بنية الحكم ببغداد، تستهدف إزاحة رؤوس الفساد والعمل على إعادة الأموال العراقية المنهوبة ومحاربة الفاسدين وتقديمهم للقضاء ومحاكمتهم وزجّهم في السجون. وأن هناك قائمة كبيرة للإزاحة والإحلال في حقيبة الأميركان ستأخذ طريقها إلى بغداد قريبا، وتضيف المعلومات بأن المرحلة الثانية من مشروع التغيير هي إعادة التوازن الطائفي إلى مؤسسات الحكم والاعتماد على أشخاص ذوي خلفية عسكرية لإدارة السلطة، أما المرحلة الثالثة من السيناريو، فتهدف إلى تنفيذ مشروع أقلمة العراق بما يرضي إيران بإقامة مشروعها الشيعي على أن يتم اقتطاع سامراء وبعض المناطق القريبة من كركوك لهذا الإقليم إلى جانب الإقليمين السني والكردي.
وإذا كان من المبكر تصديق مثل هذه التسريبات الأميركية الصادرة عن أقوى مراكز المعلومات والاستخبارات في العالم، وهي نتاج لحالة التوتر والتنافس بين أطراف الفريق الشيعي الحاكم ببغداد، فإن أي تحرك في مثل هكذا تحول جذري لن يتم قبل طرد داعش من العراق ومنع عودته إلى أراضيه مجددا خاصة في ظل ما تعيشه الأزمة السورية من تعقيدات عميقة. ولهذا نجد أطراف الجذب الحالية بين أميركا من جهة وإيران من جهة ثانية، تتمثل في ميادين عدة من بينها من ستكون أداة التحرير للموصل من داعش؛ الحشد الشيعي أم قوة الجيش النظامي مسنودة بالعشائر العربية السنية.
وإرضاء لتكتله، أعلن حيدر العبادي أن الحشد “الشيعي” سيكون في مقدمة معركة الموصل. العراقيون يتمنون ألا يكون تاريخ تحرير العراق من المحتلين والدخلاء بعيدا بسبب ما عانوه، شيعة وسنة وأكراد وتركمان ومسيحيين، من ظلم وحرمان وتشريد وتهجير، لكن اليوم هناك وقائع سياسية مظلمة داخل ممثلي البيت الشيعي الحاكم وعلاقتهم بابنهم العبادي ورغبتهم بألا يتحول إلى “طائر” شارد ضائع عن حقله وعشه الشيعي، قبل أن يخلعوا جناحيه، ويحولوه إلى قعيد عن السياسة. فقد اشتغلوا على عدم مواصلته للعبة السيطرة على الحكم بعد مبايعة الشعب والمرجعية له، وعوموا مبايعة المرجعية وأدخلوها في دائرة الغموض والارتباك، وأخيرا رفعت يدها عن الدعم والإسناد، وأصبح الشارع الشيعي يتردد بالدعم ثم يخمد، وبقي العبادي وحيدا وما عليه سوى التسليم بقوة نفوذ الواقع. فهذا البيت وأركانه من الصقور والحمائم لا يتهاونون في التفريط بالحكم، وهم يعرفون جيدا ما يريده الأميركان، وقد تصل بهم الأمور إذا ما تطلبت الظروف إلى الخروج عن طاعة طهران إذا وجدوها تفضّل مصالحها الاستراتيجية الكبرى عليهم، وهي التي هيأتهم ودعمتهم للوصول إلى حكم العراق. وقد يذهبون إلى الحلول الاستباقية بسيطرة القوى المتطرفة (الميليشيات) وإحراج الجميع.
العبادي حاليا في ظرف سيء ولم تعد المعركة ضد داعش تمنحه غطاء الهروب من مواجهة الواقع، وإمبراطورية الفساد وصلت إلى مفترق طرق، إما تضحيتها بزعاماتها وشبكاتها الواسعة داخل العراق وخارجه، وإما التضحية بالعبادي. لقد أوصلهم الطمع إلى درجة نهب كل شيء وكان بمقدورهم أن يتفقوا في ما بينهم على سرقة نسبة من هذه الخزائن وترك القليل لهذا الشعب العظيم. لقد انتهت اللعبة، بما يحصل الآن من مناقشات داخل قيادة القوى الشيعية في ما إذا كانوا مؤيدين لخطوة العبادي أم لا في مشروع التعديل الوزاري الذي طرحه بالمجيء بعناصر من التكنوقراط، وكذلك دعوته إلى ما يسمّى “بحصر السلاح بيد الدولة”، وهو مشروع لا يحظى بالدعم من تلك القوى النافذة إن اقترب من المساس بالعناصر القيادية لتلك الأحزاب، ومعروف أن بعضها لم يعد مستعدا للتراجع عن واجهات الإعلام والوجاهة والنهب، والتفرغ للعمل الحزبي الشعبي الذي فقد جميع وظائفه بعد حالة اليأس الشعبي الشيعي.
فالصحيح أن يكون هؤلاء هم المستهدفون بالتغيير الاحترازي الذي يطلبه العبادي وهو يسمع الصوت الأميركي أكثر من الآخرين، ولديه التمنيات بأن يكون زعيما حاكما مثلما كان رئيسه الحزبي نوري المالكي، مع الفارق أن المالكي كان قد تربع على خزائن المليارات التي تبخرت في ظل حكمه، ما لا يقل عن 700 مليار دولار. وقد صرف المالكي ميزانية 2015 قبل الإطاحة به. أما العبادي فيتربع على “بساط الفقر”، كما يقول المثل الشعبي العراقي.
أصبح العراق يستجدي القروض من البنك الدولي، واستلم العبادي إرثا أمنيا قاسيا، حيث انهارت المؤسسة العسكرية بسبب سياسة الفساد وفضيحة سقوط المحافظات الغربية وخاصة الموصل بيد داعش وهروب ثلاث فرق عسكرية تعدادها خمسون ألف عسكري من دون قتال أمام المئات من الداعشيين، الذين استلموا بلا معركة معدات الجيش العسكرية الهائلة. لقد خلّف المالكي للعبادي إرث الحشد الشعبي الذي أنشأه، ورغم صلته الرسمية بالقائد العام للقوات المسلحة لكن ولاءه ظل لخارج الحدود، وأصبح الآن القوة المخيفة في الشارع العراقي، ولا يسمح لأحد المساس (بقدسيته) وسط هيمنة قياداته وسطوتها على الإعلام الحزبي الشيعي والموالي داخل العراق، فالحشد اليوم أداة المتطرفين الشيعة للمعركة المقبلة إن حصلت بين قوى النفوذ إذا ما حاول العبادي التحرش لصالح المشروع الأميركي الجديد في التغيير.
إن هاجس الأحزاب الشيعية هو احتمالات التغيير في منهج الحكم الذي يدعو إليه الأميركان حاليا، رغم أنه لا توجد مؤشرات على تغيير يزيل الحكم الطائفي، وإنما وجوهه الفاسدة، رغم ذلك هناك خوف من هذا التحول إن حصل، ويريدون خصوصا من المالكي إبعاد العبادي عن الحكم لكي لا يكون “حصان طروادة” للأميركان بحسب ما يتصورون، عن طريق تحطيم صندوقه الخشبي قبل دخوله حصنهم رغم أنه من داخل ذلك الحصن، ولا يهمّهم أن يقدموه ضحية للتمسك بالحكم في العراق. والقضية المهمة هي لعبهم بورقة العرب السنة، فالقوى السنية المشاركة معهم ضعيفة، فقد منعت القوى الشيعية العبادي من تمرير قانون “الحرس الوطني” الذي روّج له الأميركان كجزء من حملة توفير عناصر الاطمئنان للسنة في العراق، كما يمتلكون ملفات كثيرة بينها الفساد ضد الزعامات السنية التي تعاونت معهم. وأعلنت هيئة النزاهة قبل أيام إحالة صالح المطلك إلى القضاء مع آخرين، وسبق أن حُكم بالإعدام على نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ومطاردة وزير المالية رافع العيساوي.
أما قوى المعارضة المسلحة الفعلية على الأرض، خصوصا في الموصل، والتي كانت مقاومة للاحتلال العسكري الأميركي، فمتهمة بكونها داعشية وإرهابية ولا يمكن لأحد تقديمها كقوة سياسية، ولا يعرف ما هي الوصفة المقبلة لها بعد طرد داعش من العراق.
العبادي وحده القادر على تحديد خياراته، رغم أن المؤشرات تؤكد استسلامه لقرارات كتلته، هل سيكون له دور في التغيير المقبل أم سيظل طائرا ضائعا في حقله الشيعي؟
المصدر: العرب