بيّنت التطورات والمؤشرات الواردة إلى لبنان خلال الساعات الأخيرة أنّ إصلاح ذات البين على مستوى العلاقات المتأزمة مع المملكة العربية السعودية وعموم دول الخليج العربي لا يزال يحتاج إلى بذل مزيد من الجهود الحثيثة لتجاوز خطيئة نكران الذات العربية للبنان التي اقترفها الوزير جبران باسيل في مؤتمري القاهرة وجدّة، وأنّ البيان الحكومي الصادر توكيداً على التمسك بالهوية العربية وبالإجماع العربي ليس سوى أولى خطوات الألف ميل باتجاه إعادة تصويب موقف لبنان الرسمي بما يتماشى مع تاريخه العروبي ويتناسق مع سجل ديبلوماسيته العريقة في الانضواء تحت الراية العربية بوصفها جزءاً لا يتجزأ من نسيج الهوية الوطنية. فغداة صدور البيان الحكومي، جاء تحذير كل من السعودية والإمارات والبحرين رعاياهم من زيارة لبنان «بمثابة رسالة تؤكد استمرار العتب العربي» وفق تقدير ديبلوماسي عربي لـ»المستقبل» لافتاً إلى أنّ «هذه الرسالة إنما أتت لتعبّر بشكل أو بآخر عن أنّ الإجراءات المتخذة من قبل لبنان الرسمي لتصحيح مسار العلاقة مع المملكة ودول الخليج لم تكن حتى الساعة على القدر المأمول عربياً ربطاً بجسامة الخطأ المُرتكب بحق عروبة لبنان كما تجاه أشقائه العرب».

ففي سياق وضعته أوساط سياسية واقتصادية في إطار معزّز للمخاوف والهواجس من تفاقم الأمور بشكل ستكون له انعكاسات سلبية على اقتصاد البلد ما لم يُسارع المسؤولون اللبنانيون إلى تدارك حراجة الموقف، طلبت السعودية على لسان مصدر مسؤول في وزارة الخارجية أمس من رعاياها عدم السفر إلى لبنان كما دعت السعوديين الموجودين فيه إلى المغادرة وعدم البقاء على الأراضي اللبنانية «إلا للضرورة القصوى». في حين منعت الإمارات العربية المتحدة مواطنيها من السفر إلى لبنان بدءاً من الأمس وقررت خفض مستوى تمثيل بعثتها الديبلوماسية في بيروت إلى «حدّها الأدنى». وليلاً طلبت مملكة البحرين من رعاياها «عدم السفر نهائياً إلى لبنان» مع مناشدة البحرينيين الموجودين على الأراضي اللبنانية «المغادرة فوراً».

بري 

وبالأمس برز موقف لافت للانتباه عبّر فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري عن الشكر للمملكة العربية السعودية على دعمها المتواصل للبنان، قائلاً في كلمة ألقاها أمام لجنة الشؤون الخارجية للبرلمان الأوروبي في بروكسل: «هناك حاجة إلى تعزيز دور الجيش والقوى الأمنية، ومشكورة السعودية مرة وعشر مرات ولا أعتقد أنها ستبقى على قرارها الأخير» بوقف الهبة التي كانت مقررة لتسليح القوى العسكرية والأمنية اللبنانية.

وفي معرض تأكيده على عروبة لبنان، قال: «السعودية دولة عربية ونحن أيضاً دولة عربية وليس هناك من مصلحة على الإطلاق في أن يكون هناك خلاف بين لبنان وأي دولة عربية«، لافتاً في سياق الإشارة إلى التوتر الحاصل في العلاقة مع المملكة على خلفية خروج وزير الخارجية اللبناني عن الإجماع العربي إلى أنّ «ما حصل هو نتيجة معادلات سواءً في سوريا أو العراق»، وأضاف: «ما حصل أن السعودية تأثرت وأوقفت الهبة، وقد جرت معالجة الأمر في الحكومة وخرجنا بصيغة واحدة لتلافي أي خلاف مع أي بلد عربي، فنحن بلد عربي ونؤكد هذا الموضوع».

سلام يلتقي عسيري اليوم

تزامناً، أكدت مصادر حكومية لـ«المستقبل» أنّ رئيس مجلس الوزراء تمام سلام باشر بإجراء سلسلة اتصالات عربية تمهيدية لتعبيد الطريق أمام القيام في مرحلة لاحقة بجولة خليجية تبدأ من المملكة العربية السعودية وتشمل عدداً من دول مجلس التعاون الخليجي لتذليل الشوائب التي خلفها موقف وزارة الخارجية في مؤتمري جامعة الدول العربية في القاهرة ومنظمة التعاون الإسلامي في جدّة، لافتةً في هذا الإطار إلى أنّ السفير السعودي علي عواض عسيري سيزور السرايا الحكومية اليوم بناءً على طلب سلام للتشاور معه في المستجدات ولنقل رسالة من رئيس الحكومة تعبّر عن رغبته بالتواصل مع القيادة السعودية تمهيداً لزيارة المملكة.

.. ووفود متضامنة في السفارة

وبينما كانت تواقيع المواطنين تتوالى على وثيقة «لبنان للإجماع العربي» التي أطلقها الرئيس سعد الحريري سواءً عبر الانترنت أو في مراكز «تيار المستقبل» في المناطق، غصّت السفارة السعودية في بيروت صباح أمس بالوفود السياسية والنيابية والروحية والاقتصادية والشعبية المتضامنة مع المملكة، بحيث جرى التشديد على كون «اللبنانيين أوفياء لكل من يقدم لهم الخير» كما أكد الأمين العام للتيار أحمد الحريري قائلاً إثر زيارة السفارة على رأس وفد: «باقون مع السعودية بحزمها وبمشروعها العربي الذي يمثلنا، وبكل ما لهذه المرحلة من صمود وتصدٍ لكل المشاريع الغريبة عن هذا البلد».

وفي نهاية اليوم التضامني، ألقى السفير السعودي كلمة لفت فيها إلى أنّ «الوفود التي أمّت السفارة من بيروت والمناطق تعّبر خير تعبير عن محبة الأشقاء اللبنانيين لقيادة المملكة وحرصهم على صون العلاقات الأخوية التاريخية التي تربطها ولبنان، وتؤكد أنّ بعض الأصوات والجهات التي تسعى إلى النيل من هذه العلاقة لا تعّبر عن لبنان الذي نعرفه، لبنان الهوية العربية، لبنان الوفاء للأشقاء ولبنان المنسجم مع محيطه وثقافته وتاريخه»، مشدداً على أنّ السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز «تحرص كل الحرص على أمن لبنان وسيادته واستقراره وعلى تمكين الدولة اللبنانية من النهوض وممارسة مسؤولياتها».

ولاحقاً، صرّح عسيري لقناة «المستقبل» قائلاً: «ما رأيناه في مضمون خطاب دولة الرئيس سعد الحريري وما رأيناه من جهود حثيثة من الشرفاء المحبين للبنان هي جيدة»، رافضاً التعليق في المقابل على مضمون البيان الصادر عن مجلس الوزراء واكتفى بالإشارة إلى أنّ «الخطأ الذي ارتكب بحق المملكة العربية السعودية في موقعين مهمين متتاليين هو خطأ كبير وبالتالي مطلوب تصحيح هذا الخطأ»، وأردف مضيفاً: «المملكة لم تخطئ في حق لبنان، هي تتفهم التركيبة اللبنانية ولكن هل إيران تتفهم هذه التركيبة وتترك لبنان وشأنه؟ لبنان بلد عربي وبالتالي أي شيء يحدث منه تجاه بلد عربي يكون كبيراً».