اذا كان من الممكن التنبؤ بسياسات السعودية في زمن «الجيل الأول»، فان هكذا مهمة باتت صعبة للغاية مع «الجيل الثاني». صارت كل الاحتمالات السياسية واردة، لكأن هناك «مملكة جديدة» يصعب فك طلاسمها ومعرفة مفاتيح أقفالها، وكيفية الدخول الى ديوانها والتعرف الى مراكز القوى فيها.
هذه الصورة الضبابية تجعل من الصعب ايجاد تفسير مقنع للقرار السعودي بإيقاف هبة المليارات الأربعة، مثلما تجعل من الصعب أكثر معرفة لماذا باركت المملكة، وتحديدا ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت، لينفجر بوجهه قرار سعودي، ربما كان يتوقع صدوره في ظل الكثير من المؤشرات التي سبقته، لكن المفاجئ هو التوقيت الذي تزامن مع عودته الى بيروت بعد غياب طويل.
وبينما كان مطلوبا من الحريري أن يعيد لم صفوف تياره وجمهوره واعادة شد عصب «قوى 14 آذار»، استعدادا للاستحقاقات المقبلة، وأولها الانتخابات البلدية والاختيارية، في أيار المقبل، فقد وجد نفسه فجأة أمام تحدي تحويل لبنان الى خط الدفاع الأمامي عن السعودية، في مواجهة تداعيات الاشتباك المفتوح بينها وبين ايران وحلفائها الاقليميين.
لكأن لبنان «الحديقة الخلفية» لكل ما يجري في الاقليم، لم تعد مقبولة أوراق اعتماده، أقله في بعض دول الخليج. صار المطلوب منه موقف سياسي واضح وأن لا ينأى بنفسه عن «الاشتباك الكبير».
تولى الحريري بنفسه تخريج «البيان الوزاري» الجديد لحكومة تمام سلام، بمعزل عما اذا كان كافيا بالنسبة للسعوديين أو أنهم كانوا يأملون بسقف أكثر ارتفاعا، ولم تمض ساعات حتى أطلق العريضة المليونية التي يأمل أن يحملها الوفد الوزاري معه في جولته الخليجية، بدءا من الرياض، وهي مهمة تقتضي اقامة «احتفاليات» في شتى المناطق اللبنانية، من صيدا الى عكار مرورا بالاقليم والشوف وبيروت وكسروان والبقاع.
لم تأت حتى الآن أية اشارة سعودية ايجابية، لا بالعكس، فان الطلب من الرعايا السعوديين مغادرة لبنان وقرار الامارات والبحرين بمنع سفر مواطنيهم الى لبنان وتقليص بعثة الامارات الديبلوماسية في بيروت، وقول مصادر مقربة من دائرة القرار السعودي أن الخطوات اللبنانية «غير كافية حتى الآن»، كانت كلها بمثابة اشارات سلبية تدل على عدم «هضم» لا البيان الحكومي ولا العريضة المليونية.
وبينما كان سفير السعودية في بيروت علي عواض عسيري يصف ما أسماه «الخطأ المرتكب بحق بلاده»، بأنه «كبير ومطلوب تصحيحه»، كان لافتا للانتباه فتح أبواب السفارة للوزير «المستقبلي» المستقيل أشرف ريفي، الأمر الذي ترك صدى سلبيا عند «التيار الأزرق»، خصوصا وأن لسان حال سعد الحريري منذ لحظة وصوله الى بيروت أن ما يقوم به ريفي لا يحظى بأية تغطية سعودية على عكس ما يشيع الرجل نفسه، ويدل على ذلك اللقاء العاصف بين زعيم «المستقبل» ووزير العدل السابق في «بيت الوسط» ثم تعمد عدم دعوته الى أي من محطات الزيارة الحريرية الى عاصمة الشمال.
واللافت للانتباه أيضا أن البعض من «أهل الخليج» في بيروت، تعمد، أمس، تسريب كلام غير مألوف مفاده «أنه بدل توجه رئيس المجلس النيابي نبيه بري الى بروكسل، كان الأجدر به أن يستقل طائرة تحط به في الرياض وأن يطلب هناك من قيادة المملكة التراجع عن قرار حجب الهبة المالية، وعندها يمكن أن تختلف الصورة.. وربما تصحح»!
غير أن هذا الافتراض النظري المذيل بعبارة «ربما» لا يمت بصلة الى أدبيات وحسابات بري الذي كان يتمنى أن تأتيه الدعوة الرسمية لزيارة السعودية في لحظة مختلفة عن هذه اللحظة، ولذلك، كان قراره واضحا بأنه هو من يختار التوقيت.. وعلى الأرجح لن يكون قريبا!
واذا كان الروس والأميركيون يتسابقون الى ترجمة سياسية وميدانية لخطتهما السورية المشتركة، قبل أن يبدأ العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأميركية في مطلع الصيف المقبل، فان السعوديين يحاولون عرقلة هذا المسار، حتى تدخل الأزمة السورية ومعها ملفات المنطقة والعلاقة الأميركية ـ الايرانية، في آتون الحمى الانتخابية وصولا الى الانتخابات نفسها في الخريف المقبل، بحيث تنتقل الملفات الاقليمية (وخصوصا السوري) والدولية تلقائيا الى الادارة الأميركية الجديدة!
هل يمكن أن يخطر في بال السعوديين مطالبة لبنان بما لا قدرة على تحمله سياسيا وأمنيا؟
الجواب البديهي عند معظم المسؤولين الرسميين والسياسيين هو أن لا مصلحة لهم بذلك، لكن ذلك لا يمنع طرح أسئلة سريعة في هذا السياق:
÷ هل صحيح ما تردد عن طرح السعوديين والأتراك خيار فتح جبهة الشمال اللبناني، وتحديدا عبر وادي خالد مطلع السنة الحالية، وهل صحيح أن من حال دون ذلك هو الموقف الأميركي القاطع برفض التعرض للاستقرار اللبناني؟
÷ هل صحيح ما يتردد عن محاولات تقوم بها بعض المنظمات غير الحكومية في الشمال (بغطاء سياسي) من احصاءات في بعض تجمعات النازحين السوريين، وخصوصا للشبان الذين نفذوا الخدمة الالزامية في الجيش السوري سابقا، وهم يستطيعون حمل السلاح اذا طلب منهم ذلك؟
÷ هل صحيح أن فكرة اعادة احياء «أفواج طرابلس» قد عادت للواجهة.. ولماذا يتم اطلاق شائعات حول عمليات تسليح في بعض المناطق اللبنانية القريبة من الحدود السورية؟
÷ هل طلب السعوديون من قيادة الجيش اللبناني في أكثر من مناسبة الحصول على «ضمانات محددة»، بشأن وجهة استخدام الأسلحة والذخائر التي سيحصل عليها من فرنسا والولايات المتحدة عبر المال السعودي، وهل شملت هذه «الضمانات» أمورا محددة في «جبهة عرسال» والقلمون، وهل رفض الجيش اعطاء مثل هذه الضمانات، أي أن لا تقتصر إجراءاته الحدودية على المجموعات الارهابية، بل أن تشمل «حزب الله» لشل قدراته الحركية على طول الحدود الشرقية؟
÷ هل صحيح أن دولة في «التحالف الاسلامي» وجهت سؤالا للجيش حول امكان استخدام مطار القليعات العسكري في الشمال.. وجاء الجواب سلبيا من الجيش اللبناني؟
÷ هل صحيح أن الجيش اللبناني طلب من دولة خليجية تزويده بصواريخ جو ـ أرض لاستخدامها في العمليات العسكرية ضد المجموعات الارهابية في جرود عرسال وجاء الجواب سلبيا بذريعة أن المصدر الأساس لتلك الصواريخ (دولة أوروبية) رفض تزويد الجيش اللبناني بها؟
÷ هل صحيح أن قيادة الجيش اللبناني طلبت من الأميركيين التدخل لدى السعوديين أقله لتمويل صفقة طائرات «السوبر توكانو».. وهل صحيح أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري كان قد هاتف نظيره السعودي عادل الجبير وسأله عن مجريات هذه «الصفقة»، وكان الجواب السعودي «أننا مستمرون بالعقود» (السوبر توكانو)، وهو الجواب نفسه الذي أعطي للفرنسيين في ما يخص هبة الثلاثة مليارات دولار؟

ماذا عن الانعكاسات الاقتصادية؟
تبلغ الودائع الخليجية لدى مصرف لبنان حوالي 860 مليون دولار، بينها حوالي 250 الى 300 مليون دولار قيمة الوديعة السعودية، وهذه الودائع الحكومية استخدمت لدعم الاستقرار النقدي واعطت ثقة للقطاع النقدي والمالي اللبناني في السنوات السابقة، اما حاليا، فان احتياطي العملات الأجنبية، بفعل السياسة النقدية للمصرف المركزي، بات يشكل حوالي 37 مليار دولار، وهو من أعلى الاحتياطات التي يتمتع بها لبنان منذ اواسط التسعينيات.
اما المساهمات الخليجية في القطاع المصرفي، فهي تعتبر محدودة من خلال مساهمات افراد أو مؤسسات. وقد جرت مؤخراً عملية بيع للبنك الاهلي التجاري السعودي الذي خرج من السوق لأسباب غير سياسية، وحجمه يساوي حوالي 0.3 في المئة من حجم القطاع المصرفي في لبنان.
وعلى صعيد الودائع المصرفية البالغة حوالي 150 مليار دولار، فإن معظم هذه الودائع للمقيمين في لبنان من أفراد ومؤسسات، في حين أن ودائع غير المقيمين من كل الاغتراب وضمناً دول الخليج لا تشكل أكثر من حوالي 40 الف مليار ليرة (حوالي 25 مليار دولار).
وبالنسبة لتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والبالغة حوالي 8.7 مليارات دولار سنوياً، فان حوالي 55 في المئة منها من دول الخليج (حوالي 70 في المئة من السعودية) أي ما يقارب 4.7 مليارات دولار، علما ان عدد العاملين في دول الخليج يقارب 400 الف لبناني معظمهم في السعودية.
وعلى صعيد الصادرات اللبنانية الزراعية والصناعية، فان سوقها الأساس هو دول الخليج (حوالي 55 الى 65 في المئة من هذه الصادرات) أي ما قيمته حوالي 3 مليارات دولار سنوياً.
ومن المعروف أن الصادرات اللبنانية وخصوصا الزراعية يعتبر الخليج سوقها الأول، وخصوصا السعودية، وهذا القطاع تأثر الى حد كبير بعد اندلاع الأزمة السورية واقفال جميع المعابر الحدودية مع سوريا.