بعض المجتمعين في منزل الرئيس سعد الحريري في وادي أبو جميل كادوا يركعون ليتمكنوا من التوقيع على عريضة استجداء الرضى من النظام السعودي. كثيرون منهم انحنوا ليتمكنوا من نيل «شرف» التوقيع. فالعريضة بحجم حائط، وبعض الخانات التي يجب التوقيع فيها تكاد تلامس الأرض. الأسماء تُكتب بخط كبير، على أمل أن يراها صاحب سموّ ما، فيلطف بالموقعين، ويمنحهم عطفه ورضاه.
الحريري، المأزوم، استغل قرار الغضب السعودي على لبنان ليحاول تقديم فروض الطاعة لحكام البلد الذي يحمل جنسيته. بدا المشهد أمس في وادي أبو جميل شبيهاً بما ظهر في حفلات البيعة للملك السعودي وأولياء عهده، عندما ابتُدع أسلوب «حديث» للمبايعة، إذ يُنصب مجسّم للملك وأولياء العهد، ويقف خلف كل مجسّم رجل يمد يده من ثقب في المجسم، ويمرّ المبايعون ليصافحوا اليد الظاهرة من الصورة الكرتونية. الحريري فعل أمراً شبيهاً، لكن بلا يد خلف الكرتون أو الفلين.
صدر بيان مجلس الوزراء من دون تكرار إدانة التعرض لمقرّي البعثتين السعوديتين في إيران
بدا كمن وجد ضالة بحث عنها طويلاً. لم يدرك بعد سبب تركه بلا مال. وصلت أصداء الأزمة التي تمر بها إمبراطوريته (سعودي أوجيه) إلى خارج حدود مملكة الصمت، فنشر موقع «راديو فرنسا الدولي» أول من أمس تقريراً يتحدّث فيه عن عدم دفع الشركة رواتب موظفيها للشهر الخامس على التوالي (يبلغ عددهم نحو 56 ألف موظف). والموظفون الفرنسيون في الشركة رفعوا الصوت. بعضهم لم تُجدّد إقاماتهم، وبعضهم الآخر عاجز عن دفع أقساط مدارس أبنائه. ولا أحد يفهم سبب إقفال السعوديين «حنفية» المال عن الحريري. يفسّر سياسيون ذلك برغبة محمد بن سلمان في الاستحواذ على الشركة، التي تُعدّ الثانية من حيث الحجم في السعودية. فيما يقول آخرون إن الأمر متصل حصراً بالتقشف الذي يمارسه النظام السعودي، بسبب تكاليف حربه على اليمن ونتائج خفض أسعار النفط. فيما البعض يرى أن الأزمة سببها سوء إدارة وفساد في الشركة نفسها، من دون أي دوافع سياسية.
أياً كان السبب، فإن الحريري بحاجة إلى المال السعودي، وبدا أمس كمن يوقّع طلب استرحام مرفوع إلى «وليّ الأمر»، علّه ينظر إلى «مواطنه» بعين الرحمة. طلب الحريري، وجمعٌ من السياسيين وأصحاب الثروات، من اللبنانيين التوقيع على عريضة، «ترفض الحملات المشوهة لصورة لبنان والمسيئة لعلاقاته الأخوية مع أشقائنا في المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية»، وتناشد «خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وقادة دول مجلس التعاون الخليجي عدم التخلي عن لبنان والاستمرار في دعمه واحتضانه».
الرفض والمناشدة وغيرها من عبارات الاستجداء كانت سيدة الخطاب «السياسي» اللبناني أمس. مجلس الوزراء أمس دُعي للانعقاد، وفي بال الداعي رفضٌ ومناشدة. أراد تيار المستقبل، وممثله في رئاسة الحكومة تمام سلام، أن يصدر المجلس بياناً بسقف عالٍ، يتضمّن ما يشبه الاعتذار من النظام السعودي عن المواقف التي تصدر ضده في لبنان، إضافة إلى إدانة ما تعرّضت له السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مدينة مشهد من اعتداء على خلفية مجزرة الإعدامات بحق معتقلين في سجون النظام السعودي، كان أكثرهم شهرة الشيخ نمر النمر.
وبعد سجال طويل، ختم مجلس الوزراء جلسته ببيان تلاه سلام، تضمّن الصيغة التي اقترحها في اليوم السابق الرئيس نبيه بري. وهذه الصيغة تنص على «وقوفنا الدائم إلى جانب إخواننا العرب، وتمسكنا بالإجماع العربي في القضايا المشتركة».
كذلك نال رئيس الحكومة ما أراده: تكليفه «إجراء الاتصالات اللازمة مع قادة المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي تمهيداً للقيام بجولة خليجية على رأس وفد وزاري لبناني لهذه الغاية». وشهدت الجلسة نقاشات طويلة بين ممثلي قوى 14 آذار الذين طالبوا بإدانة الهجوم على مقرّي البعثتين السعوديتين في إيران، ووزيري حزب الله اللذين رفضا تكرار الإدانة التي عبّرت عنها وزارة الخارجية أكثر من مرة؛ علماً بأن رئيس الحكومة عبّر في جلسة الحوار الوطني عن تأييده لموقف وزير الخارجية الذي أدان بلا أي لبس الحادثتين. وفي النهاية، صدر البيان بلا تكرار الإدانة.
وبعد الجلسة، اندلع سجال بين سلام ووزير الخارجية جبران باسيل، الذي عقد مؤتمراً صحافياً ذكّر فيه بأن وزارة الخارجية سبق لها أن أدانت، أكثر من مرة، الهجوم على مقري البعثتين الدبلوماسيتين السعوديتين في إيران. وردّ سلام على باسيل مذكّراً إياه بأن بيان مجلس الوزراء أمس صدر بإجماع الحاضرين، ومنهم وزير الخارجية، فردّ باسيل بأنه يؤيد رد سلام، مشيراً إلى أنه «لا يفهم سبب صدوره».
وعُقِد أمس اجتماع في منزل الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان، حضره الحريري والنائب وليد جنبلاط الذي ذكّر بالعلاقة التي جمعت والده الراحل كمال جنبلاط بالملك السعودي فيصل في سبعينيات القرن الماضي.
وفيما ذكرت بعض المصادر أن الاجتماع هدف إلى التنسيق بشأن جلسة انتخاب رئيس للجمهورية في الثاني من آذار، إلا أن مصادر مطلعة على أجواء اللقاء أكّدت أنه لم يكن سوى دعوة من سليمان للحريري على العشاء ردّ له بها دعوته إلى الغداء الأسبوع الماضي.
ولفتت المصادر إلى أن سليمان أراد إظهار صورة تفيد بوجود شخصيات سياسية مؤيدة للموقف السعودي الأخير، فضلاً عن إزالة الفتور الذي شاب علاقته بجنبلاط بعدما ساهم سليمان في عرقلة مسعى رئيس «اللقاء الديمقراطي» للتمديد للعميد شامل روكز في الجيش قبل إحالة الأخير على التقاعد. وأشارت المصادر إلى أن مصير جلسة الثاني من آذار محسوم بسبب رفض النائب سليمان فرنجية المشاركة في جلسة انتخاب رئاسية لا يحضرها حزب الله، فضلاً عن إحباط الرئيس بري محاولات بعض قوى 14 آذار لـ»تهريب» الانتخابات الرئاسية.