لا أظن أن السعودية قررت التراجع عن دعمها للجيش وقوى الأمن، ومؤسسات لبنانية أخرى، فقط غضبًا مما يقال في بعض الإعلام اللبناني ضدها. فانخراط بعض الصحف ومحطات التلفزة في حملات تروج للخطاب الإيراني المعادي للسعودية، والمحرض عليها وعلى بقية دول الاعتدال العربية، ليس أمرا طارئًا. في تصوري السبب أكبر وأخطر.
عندما قررت السعودية تخصيص مبلغ ضخم، ثلاثة مليارات دولار للجيش، ومليار دولار لقوى الأمن، لتطوير إمكانياتها وتدريبها، لم تشترط مقابلها دخول لبنان في حروب خارجية، ولا الانضمام إلى أحلاف إقليمية، بل كان الهدف تقوية السلطة المركزية، بدعم مؤسسات الدولة اللبنانية في وجه تنمر الميليشيات، ومحاربة التنظيمات المتطرفة، وسد الفراغ الذي حدث بعد انسحاب القوات السورية بقرار من مجلس الأمن، إثر تورط نظام الأسد في عمليات اغتيال رفيق الحريري.
في الوقت الذي مدّت السعودية يد الدعم لتقوية الدولة، مدّ حزب الله يديه للاستيلاء على السلطة غير مكتف بحصته الكبيرة فيها. قام بتوظيف المؤسسات العسكرية اللبنانية لخدمة أغراضه في الحرب في سوريا، وكذلك استغلها في داخل لبنان. وعمل على استخدام وزارة الخارجية لدعم المواقف الإيرانية في المحافل الدولية، وتجرأ على استغلال النظام المصرفي الذي عرف بأنه من الأفضل في المنطقة للمتاجرة بنشاطات محرمة في أنحاء العالم، من مخدرات وسلاح.
ولم تتمكن الحكومتان اللبنانيتان المتعاقبتان من لجمه ولا رئاسة الجمهورية أيضا. والأخطر أن الجيش نفسه لم يفلح في النأي بقواته كذلك، وصار مستهدفا من قبل الحزب لتوظيفه في الحرب الإيرانية في سوريا. جرّ الجيش إلى نشر قواته في مناطق مثل عرسال، وامتطاه الحزب لملاحقة من سماهم الإرهابيين من المعارضة السورية، وسخره لسد ممرات يستخدمها اللبنانيون والسوريون للعبور والتمويل. وأبعد حزب الله الجيش عن المناطق الشمالية التي يستخدمها مقاتلو الحزب في طريقهم من وإلى سوريا. هذا على الحدود والطرق المؤدية إليها، أما في الداخل، فقد حظر حزب الله على الجيش أن يدخل الضاحية الجنوبية، التي يعتبرها منطقة خارج سلطة الدولة اللبنانية. كما تردد أن الحزب يبني مهبطا عسكريا في بلدة إيعات في البقاع، للقيام بالمزيد من عملياته المشبوهة، إضافة أن حزب الله يسيطر على أمن مطار بيروت، يخطف من يشاء، ويفتش ما يشاء. كما أن ميليشياته خطفت معارضين إيرانيين مسالمين، وهددت وسائل إعلام لأنها انتقدت المرشد الأعلى في طهران ووكيله في الضاحية.
كل هذا التنمر يزداد في وقت أصدرت الخزانة الأميركية، وجهاز مكافحة المخدرات الأميركي، بيانات تفصيلية عن تورط حزب الله في المتاجرة بالمخدرات، وجرى اعتقال عدد من عملائه خلال الأسابيع القليلة الماضية في لوثوانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وكولومبيا، وكذلك داخل الولايات المتحدة. وقالت الحكومة الأميركية إن التحقيقات في شبكة حزب الله بدأت منذ فبراير (شباط) 2015. واتضح أنها تصب في لبنان الذي يستخدمه الحزب مركزا لإدارة عملياته ضد الكثير من الدول في أوروبا والأميركتين، لتبييض الأموال وتمويل شراء الأسلحة. ووصفت لبنان بأنه أصبح من أخطر مراكز إدارة عمليات تهريب المخدرات في العالم، مما تسبب في وضع عدد من المصارف اللبنانية تحت الرقابة الدولية ومراجعة سجلاتها. وقد تعمد حزب الله إضعاف وإذلال مؤسستي الجيش والأمن، إلى درجة أن أحدًا لم يتجرأ على مواجهة شبيحة حزب الله ومنظمة أمل، عندما هاجموا المحتجين على تراكم «الزبالة».
لم يعد هناك منطق في أن تقوم السعودية بدعم مؤسسة لبنان العسكرية والمدنية، التي أصبح بعضها يخدم حزب الله ومن ثم إيران. كانت ترجو أن تعزز مؤسسات الدولة والسلطة المركزية حتى تدعم استقلال قراره السياسي الخارجي والداخلي.
لقد لعب حزب الله متعمدًا دور المخرب والمعطل للدولة. قد أجبر على إبعاد رؤساء حكومات، ومنع ترشيح رؤساء للجمهورية، وأوقف العمل النيابي، ليحقق هدفه بشلّ مؤسسات الرئاسة والحكومة والجيش، ويضع البنك المركزي في دائرة الشبهات الدولية، ووزارة الخارجية ملحقة بوزارة الخارجية الإيرانية. حزب الله يريد تحويل لبنان إلى مستعمرة إيرانية، وما ممارساته المتتالية إلا مسبحة مشروع نظام ولاية الفقيه، بالهيمنة على العراق وسوريا ولبنان. بعد هذا كله، لم يبق هناك منطق في سياسة تقوية الجيش والأمن وتدريبه وتسليحه.
وحتى مع إلغاء دعمها، تظل السعودية أمل الاعتدال اللبناني في معركته ضد ميليشيات إيران وحلفائها، وألا تترك البلد لقمة سائغة لهم في حرب إقليمية مستعرة.