تدحرجت مفاعيل القرار السعودي بإيقاف الهبة المخصصة للجيش والقوى الأمنية، متخذة أبعادا داخلية حادة، رفعت من جديد حرارة مناخ الانقسام السياسي والمذهبي على الساحة اللبنانية، إلى حد بات يهدد بتمدد التداعيات في أكثر من اتجاه، وصولا إلى الشارع المحتقن.
ولعل من أهم التساؤلات التي تلت «العقاب» السعودي للبنان، ما يتعلق منها بدلالات وقف العمل بالهبة، من نوع: هل ما جرى مؤشر إلى أن المظلة الإقليمية والدولية التي قيل إنها تحمي الحد الادنى من الاستقرار اللبناني قد ثُقبت؟ هل قررت الرياض توسيع جبهة المواجهة مع إيران وحلفائها لتبلغ لبنان، بعد تحييده نسبيا طيلة الفترة الماضية؟ وإذا صح هذا الاحتمال، إلى أي درجة يمكن أن يكون الرئيس سعد الحريري الطامح إلى رئاسة الحكومة هو المتضرر السياسي الأكبر من الحسابات الخاطئة أو الاندفاعات المتهورة؟
وإذا كان الحريري قد عاد في المرة السابقة إلى لبنان متأبطا هبة المليار دولار، فإن المفارقة هذه المرة أن السعوديين واكبوا عودته إلى بيروت، بسحب بساط المليار من تحته، وهو أمر أصاب بشظاياه صورة الحريري نفسه، وإن يكن رئيس «تيار المستقبل» والقيادات الأخرى في «14 آذار» قد سارعوا إلى ملاقاة القرار السعودي واستثماره في معركة الضغط على «حزب الله»، انطلاقا من تحميله مسؤولية إيقاف الهبة، وبالتالي محاولة تأليب ما أمكن من الرأي العام عليه.
تجميع «14 آذار»
وبعدما كانت قوى «14 آذار» تترنح تحت وطأة الافتراق في الخيارات الرئاسية بين مكوناتها، فرضت متطلبات الملاقاة السياسية للموقف السعودي لملمة صفوفها المبعثرة وإعادة تجميعها حول «الخصم المشترك»، فكان اللقاء الموسع لهذه القوى في «بيت الوسط»، حيث بدت الصورة أقوى من الموقف الذي لم يتجاوز إطار تجديد الأدبيات الداعمة للسعودية والمناهضة لخيارات «حزب الله».
وعلمت «السفير» أن بعض الأطراف التي حضرت الاجتماع، لا سيما «القوات اللبنانية»، لم تكن راضية عن البيان الذي صدر، معتبرة أن سقفه أتى متواضعا، ولا يلبي متطلبات اللحظة السياسية، فيما ظهر رأي آخر، كان هو الغالب، دعا الى انتظار جلسة مجلس الوزراء اليوم وإعطائها فرصة لتصحيح الخلل قبل الذهاب نحو طروحات أو خيارات أخرى.
ولفت الحريري الانتباه بعد الاجتماع إلى أن «البيان الوزاري لم يُحترم، وكنا واضحين في موضوع النأي بالنفس، ولكن لم يعد جائزا أن يكون لبنان خارج الإجماع العربي الموجود»، مشددا على «أن المطلوب من مجلس الوزراء موقف واضح، وإلا سيكون لنا كلام آخر».
وقال مصدر قيادي في «القوات» لـ «السفير» إن البيان لم يكن على قدر تطلعاتها، مشيرا إلى أن المطلوب تحميل الحكومة مجتمعة، رئيسا وأعضاء، مسؤولية الخلل الحاصل في السياسة الخارجية، خصوصا أن الرئيس تمام سلام أقر بأن موقف وزير الخارجية في مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية كان منسقا معه.
وأثنى المصدر على قرار وزير العدل أشرف ريفي بالاستقالة من الحكومة، مشيرا إلى انه لم يكن هناك لزوم لقول الرئيس سعد الحريري قبل عودته إلى بيروت بأن موقف ريفي لا يمثله، لأن هذا الكلام كشف وزير العدل سياسيا.

استقالة ريفي
وقد انتقى ريفي لحظة «مركبة» لتقديم استقالته التي حاول من خلالها أن يصيب عصافير عدة، بحجر واحد، فهو من جهة أراد تسليف السعودية موقفا عمليا داعما لها لتعزيز مكانته لديها تحسبا لكل الاحتمالات في المستقبل، وأراد، من جهة أخرى، توجيه رسالة شديدة اللهجة إلى الحريري بعد تفاقم الخلافات بينهما، من دون أن ينجح لقاء «غسل القلوب» الأخير في معالجتها، بل ساءت العلاقة بعده إلى درجة امتناع ريفي ومناصريه عن استقبال الحريري في طرابلس، إضافة إلى أن ريفي يفترض أن «قلب الطاولة» سيعزز رصيده في طرابلس ويكرسه صاحب حيثية شعبية، بمعزل عن «المستقبل»، بل ربما في مواجهته.
والأرجح، ان استقالة ريفي ستبقى موضعية في تأثيراتها، ولن تكون توطئة لانهيار الحكومة التي لا بديل عنها، خصوصا أنها لم تكن منسقة أصلا مع قيادة «المستقبل»، كما يتبين من مضمون الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس فؤاد السنيورة بريفي أمس، علما أن هناك من يقول إن الحريري ارتاح الآن من «عبء» وزير العدل الذي بالغ في التمايز إلى حد إحراج رئيس «المستقبل».

جلسة ممسوكة؟
وبينما يُتوقع حصول نقاش حاد حول السياسة الخارجية بين وزراء «8 و14 آذار»، خلال الجلسة الطارئة لمجلس الوزراء اليوم، رجحت مصادر مطلعة أن يبقى هذا النقاش مضبوطا بسقف حماية الحكومة وأن ينتهي إلى تفعيل تسوية البيان الوزاري على قاعدة «المحاصصة» في السياسة الخارجية أيضا، بحيث يأخذ كل طرف ما يريحه، من خلال الجمع بين الالتزام بالنأي بالنفس عن الأزمة السورية والتشديد على الانسجام مع الإجماع العربي ورفض وسم المقاومة بالإرهاب.
وأبلغت مصادر وزارية في «8 آذار» «السفير» أن الاتصالات والمشاورات التي جرت أمس تُبَيِّن أن جلسة اليوم غير مرشحة للانفجار من الداخل، لكنها في الوقت ذاته لن تكون نزهة، كاشفة عن أن «المستقبل» لن يتجه نحو طرح أو التمسك بطلب تقديم اعتذار إلى السعودية، الأمر الذي من شأنه أن يسهل إيجاد مخارج.
وأكدت المصادر أنه لا مشكلة لقوى «8 آذار» مع مبدأ «الإجماع العربي»، شرط ألا يتعارض مع مصلحة لبنان، كما أنها لا تعارض اعتماد الحكومة سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية عملا بالبيان الوزاري، الى جانب ضرورة رفض أي توصيف لـ «حزب الله» بأنه إرهابي، مشيرة الى أن النقاش قد يفضي الى بعض الإيضاحات الإضافية لمسار سياسة لبنان الخارجية.

بري.. ومحاذير الثرثرة
وفي سياق متصل، أكد الرئيس نبيه بري أمام زواره أمس أنه شجع على انعقاد جلسة مجلس الوزراء اليوم، معتبرا أنها ضرورية لإعادة تثبيت سياسة لبنان الخارجية، وفق القاعدة المتفق عليها، وهي النأي بالنفس عن الأزمة السورية والتمسك بالإجماع العربي في ما يتعلق بالقضايا المشتركة.
ورأى أنه لا مانع، بعد صدور الموقف الموحد عن الحكومة، في أن يتوجه وفد الى السعودية، لإعادة تصويب العلاقة اللبنانية - السعودية.
وتعليقا على ردود الفعل التي أعقبت القرار السعودي بإيقاف الهبة للجيش اللبناني والقوى الأمنية، استغرب بري «هذه الثرثرة التي تؤدي الى الهرهرة»، منبها الى أن الوضع اللبناني المحتقن والهش لا يحتمل مثل هذه المهاترات السياسية التي قد تؤدي الى الانزلاق نحو الفتنة.
ولفت الانتباه الى أن ايران التي تمثل قوة إقليمية أساسية تؤكد في كل مناسبة حرصها على إقامة علاقات جيدة مع الرياض، وحتى عندما هوجمت السفارة الإيرانية في طهران، سارعت القيادة الإيرانية الى استنكار ما حصل وتوقيف الفاعلين، مشددا على أنه «من الطبيعي أن نكون نحن أيضا من المتمسكين بإبقاء جسور التعاون والتواصل ممدودة مع الدول العربية»، وتساءل: هل لبنان أقوى من إيران، حتى نذهب أبعد مما ذهبت اليه؟
وعما إذا كان مستعدا لزيارة السعودية في هذا التوقيت من أجل تخفيف حدة التوتر، تلبية للدعوة السابقة الموجهة اليه، أكد أنه سبق له أن أعلن عن قبول الدعوة، لكنه سيلبيها في الظرف المناسب.

سلام مطمئن
وأعرب الرئيس تمام سلام أمام زواره أيضا عن اعتقاده بأن القرار السعودي غيمة عابرة وستمر، معتبرا أن استقالة الوزير ريفي ليست في وقتها.
وقال سلام: نحن لا يمكن أن نسكت حيال ضيم أو أمر يتعلق بالسعودية، وعلينا أن نؤكد تضامننا مع المملكة في ما تواجهه مع العرب وبالنيابة عن العرب، بشكل لا لبس فيه.
وأوضح أنه دعا الى جلسة لمجلس الوزراء اليوم لاتخاذ الموقف المناسب الرسمي والمسؤول، مضيفا: سنضع الأمور في نصابها، وإذا رفض أي فريق سيتحمل مسؤوليته، وأنا كرئيس حكومة وناطق رسمي باسمها، مسؤول مع حكومتي عن صيانة العلاقات مع الأخوة العرب، وسأقوم بما يتوجب علي.
وأكد أنه يتشاور مع الوزير جبران باسيل حول كل صغيرة وكبيرة، «لكن في مؤتمر مجلس التعاون الإسلامي في جدة لم يحصل معي تشاور لا من قريب ولا من بعيد، واتُّخِذ الموقف من دون علمي، أما خلال اجتماع مجلس الجامعة العربية فقد تم التشاور معي في موضوع ذكر «حزب الله» في البيان، وقلنا إنه لا يمكن أن نوافق، وتفهم العرب هذا الموقف، وهذا لا يعني أننا لم نكن قادرين على تأييد المقررات والاعتراض على بند إذا كان يتعارض مع النأي بالنفس».
وناشد «الملك الأب الكبير سلمان أن يعيد النظر في القرار المتخذ وأن يساهم معنا في تعزيز هوية لبنان وشخصيته العربية».
الى ذلك، قالت مصادر وزارة الخارجية لـ «السفير» إن سياسة النأي بالنفس واردة في البيان الوزاري للحكومة ويمكن تغييرها او تعديلها او توضيحها لأنها ليست منزلة.
وشددت على أن وزير الخارجية التزم هذا التوجه في كل مواقفه، لافتة الانتباه الى أن الذي حصل هو نتيجة تراكم مسائل سياسية كثيرة، والسعودية تريد من لبنان أن يحدد موقفه من المعركة التي تخوضها في المنطقة، وهل هو معها ام ضدها او على الحياد.