تجد حركة حماس نفسها عالقة بين إعادة الإعمار المتعثّرة لقطاع غزة، والشقاق السياسي المستمر مع فتح، والأزمة المالية الخانقة، ولذلك تسعى إلى إيجاد حل للخروج من المحنة التي تتخبّط فيها منذ حرب 2014. تعمل الحركة جاهدةً لإنهاء عزلتها الدولية عبر إعادة إحياء علاقاتها الإقليمية، واستعادة المصادر السابقة للدعم المالي والسياسي واكتساب مصادر جديدة. لكن استراتيجية التحوّط الحذرة التي تعتمدها حماس لتصحيح الأضرار في علاقاتها الدولية لم تولّد سوى نتائج متفاوتة.
ويعتبرها المراقبون من أبرز الخاسرين مما يجري في منطقة الشرق الأوسط إلى حدّ اللحظة الراهنة بعد أن فقدت بوصلتها وبقيت في منتصف الطريق، فلاهي توجّهت بالكامل نحو السعودية وحلفائها، وحظيت بدعمهم، ولا هي أبقت على علاقتها بإيران، التي دعمتها بالمال عسى أن تستثمره في وقت حـاجتها، كما خسرت روابطها مع مصر.
تخبط وتوجس
اليوم تبدو حماس، التي تراقب بحذر صعود تيار السلفية الجهادية، وتتوجّس من دخول تنظيم الدولة الإسلامية على خطها في قطاع غزّة، أكثر عزلة وتوتّرا، بعد أن بدأت تجني باهضا ثمن ديبلوماسيتها المتفكّكة وأدائها السياسي المرتبك الذي ضاعف من مأساة أهالي قطاع غزّة. وقد رأت بارقة أمل في رفع العقوبات عن إيران الذي قد يعود عليها بالنفع.
وليس أدلّ على ذلك من البيان الصادر الخميس عن حماس، والذي تقول فيه إنها تتطلّع إلى “صفحة جديدة” من التعاون مع إيران. وبدا واضحا من نبرة البيان، الذي أصدرته الحركة في نهاية زيارة وفد من قادتها إلى طهران استمرت ثمانية أيام، أن الأزمة تشتدّ على حماس التي وجدت نفسها بين نارين وأن الخيارات أمامها محدودة.
ويفرض تصاعد الوضع على حماس فتح حوار عاجل مع طهران، لكن، الخبراء يؤكّدون أن الأوضاع المحيطة بعلاقة إيران بحماس تغيّرت، وأن الحركة الفلسطينية لم تعد تعتبر ذراعا أساسية لإيران في المنطقة، حالها كحال القضية التي حاول بيان حماس التذكير بها حين أكّد على “ضرورة أن يقف جميع أبناء الأمة الإسلامية إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ومقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي”.
وقال المراقبون إن بيان حماس حمل العديد من الرسائل، لكن ليس لإسرائيل بقدر ما كان رسائل موجّهة لغرماء حماس الجدد، وعلى رأسهم تنظيم الدولة الإسلامية، ومفاد هذه الرسائل تواصل العلاقات والدعم العسكري مع إيران، وما يعنيه ذلك من “قوة”، كما هي رسالة للسعودية التي سعت حماس، خلال فترة التوتر بينها وبين إيران، وبحثها عن حليف البحث عن حليف إقليمي نافذ، إلى التقرّب منها؛ أيضا هو رسالة إلى أهالي غزة الذين بدأوا يضيقون ذرعا بالأزمة الاقتصادية وعدم صرف الرواتب.
تعود جذور العلاقة بين إيران وحماس إلى بداية تسعينات القرن الماضي، وبالتحديد إثر انعقاد مؤتمر دعم الانتفاضة في إيران الذي شارك فيه وفد من حماس، حيث فتحت هذه المشاركة الباب أمام تطوير العلاقة بين الطرف الإيراني الباحث عن ثغرة يدخل من خلالها للمنطقة وبين حركة حماس التي رأت في حزب الله تجربة يمكن الاستفادة منها.
وقد ساعدت علاقة حماس الجيدة بحزب الله في الدخول إلى “محور الممانعة” الذي كان يضم إيران وسوريا وحزب الله. وكان خطاب إيران عالي النبرة ضد إسرائيل جعل منها الراعي الأمثل لحركة حماس.
وأثمرت العلاقة فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية وتواصل التوافق بين الطرفين على قدر كبير من التفاهم، بعد الدعم المالي والعسكري الذي قدّمته إيران لحماس بين عامي 2006-2012، والذي جعلها تواجه الحصار الإسرائيلي المفروض عليها منذ فوزها في الانتخابات التشريعية؛ لكنْ توتّر الوضع إثر اندلاع الأزمة في سوريا واتخاذ حماس لموقف معارض لنظام بشار الأسد حليف طهران.
في قراءته لخفايا بيان “إعادة البيعة”، يقول باسل ترجمان، المحلل السياسي الفلسطيني والخبير في الجماعات الإسلامية، إنه بعد سقوط رهانها على انتمائها الأيديولوجي للإخوان المسلمين وانضمامها لمخططهم بالسيطرة على عدة دول في المنطقة خلال الربيع العربي وخسارتها لكل تحالفاتها الاستراتيجية وخاصة مع ما كان يسمى بمحور المقاومة (حزب الله-سوريا-إيران) وجدت حماس نفسها مهزومة في غزة ومعزولة في المحيط العربي الإسلامي وتحولت قياداتها بين الدوحة وتركيا وبدرجة أقل السودان مما أثر على حضورها وقدرتها على الفعل وأفقدها للأبد التعاطف الشعبي والدعم الذي حظيت به سابقا.
ويضيف ترجمان في تصريحات لـ”العرب”، أن أزمات حماس وفشل رهاناتها فرضا عليها محاولة استرضاء أعداء اليوم وحلفاء الأمس وذلك عبر بوابة شبكة علاقات شخصية مع قيادات في حزب الله اللبناني الذين نجحوا بكسر عزلتها وإعادة ترطيب علاقاتها مع طهران لكنهم فشلوا بكسر الجليد مع دمشق والتي تعتبر أن حماس جزء من مشروع التآمر والغدر بها.
وتعني العودة للحضن الإيراني قطع العلاقة مع المحور السعودي التركي بدرجة أولى، لكنها تمت برضى الدوحة وهذه القفزة للمجهول ستضرب بالعمق كل مواقف قيادات حماس السابقة وخاصة زعيمها الحالي خالد مشعل والذي صار رحيله عن منصبه قضية وقت بسبب عجزه عن احترام تعهداته للسعودية بأن تكون حماس جزءا من المعسكر السني في مواجهة طهران.
وكان الباحث السياسي والعسكري الإسرائيلي، يوني بن مناحيم، ذكر أن “إيران تسعى لإسقاط حكم القيادي في حركة حماس، خالد مشعل، في قطاع غزة، مستغلة بذلك الأزمة الاقتصادية التي تعصف بحركته”، مضيفا، أن “قطر وتركيا تتحركان للإبقاء على مشعل لزيادة نفوذهما في القطاع غزة”.
ولفت بن مناحيم في تحليل له صدر عن “القدس للدراسات السياسية والاجتماعية” إلى أن الصراع السني والشيعي انتقل إلى قطاع غزة، منوها أن “إيران لا تريد حكم خالد مشعل وإسماعيل هنية في غزة لما مثّلاه من انحياز للموقف السعودي”.
تعميق الأزمة
من شأن التصريحات بعودة المياه إلى مجاريها بين حماس وطهران أن تزيد من عمق الأزمة السياسية داخل الحركة، حيث يبدو رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، متردّدا حيال قبول عرض اقترحته إيران مؤخرا لتجديد منح المساعدات المالية لحركة حماس، فمن شأن تجديد المساعدات أن يتسبب في خسارة دعم الدول العربية السنيّة له.
ويتوقّع ترجمان أن يكون مشعل، الذي ترفضه طهران وسترفضه السعودية، “كبش فداء” إرضاء لآيات الله الذين تعوّل عليهم حماس لإخراجها من أزماتها المالية أساسا والتي تفاقمت جراء إغلاق جل الأنفاق التي كانت مصدر قوّتها. أما بالنسبة إلى تركيا، التي استعادت علاقاتها التاريخية مع إسرائيل، فقد ضحت بحماس على محراب الود الجديد بين أردوغان ونتنياهو واتفاقات الغاز بين الطرفين أهم بكثير من ملف وجود حماس على الطاولة وهذا ما فهمه جيدا قادة حماس من القيادة التركية.
ويختم ترجمان حديثه مشيرا إلى أن طهران كسبت ورقة ستلعب بها جيدا لكنها لن تعود لنيل ثقتها التي اهتزت بعنف جراء تورط حماس بالحرب ضد النظام السوري ووجهت ضربة بالعمق للمحور السني الذي تقوده السعودية بافتكاك حماس منه وعودتها للحضن الإيراني وهذا سيخلق ردود فعل عنيفة من دول المحور السني ضدها والذين سيعتبرون أن حماس خانتهم مرة أخرى وفي لحظة قاتلة من الصراع في المنطقة.
وتشير ينيديتا برتي، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن العمل على إعادة إحياء العلاقات مع إيران يكشف المصالح المتناقضة التي تسعى حماس خلفها؛ فالحفاظ على روابط جيدة مع إيران يرتدي أهمية خاصة بالنسبة إلى الجناح المسلّح للحركة الذي يدرك أنه ليس من السهل استبدال الدعم العسكري الذي تقدّمه له الجمهورية الإسلامية.
بيد أن استراتيجية السياسة الخارجية الأوسع التي تعتمدها حماس في المنطقة – بما في ذلك تجديد انخراطها مع السعودية ومواقف المملكة من النزاع في كل من سوريا واليمن – تجعل من المستحيل العودة إلى التحالف الاستراتيجي الوثيق الذي كان يربط حماس بطهران قبل العام 2011.
في هذا السياق الذي يسوده الالتباس، من المنطقي أن تمضي حماس قدما في استراتيجيتها التحوّطية الاستباقية، لكن من شأن اختيار هذا الطرف أو ذاك أن يؤجّج الصراع الداخلي في صفوف الحركة. على الرغم من أن إقامة علاقات مع الرياض والقاهرة والدوحة وأنقرة يعزّز صورة حماس السياسية والدبلوماسية، إلا أنه من غير المرجّح أن تدعم هذه الحكومات الجناح المسلّح للحركة. لذلك، ترى برتي أنه من شأن أيّ محاولة تقوم بها حماس لفك ارتباطها مع إيران في شكل كامل أن يقوّض أيضًا التوازن الداخلي الهش أصلا بين القادة السياسيين والعسكريين.
ويعكس السعي إلى إرساء توازن بين العلاقات مع كل من طهران والرياض، الجهود الأوسع نطاقا التي تبذلها حماس من أجل تلبية مصالح قادتها السياسيين في غزة وجناحها العسكري على السواء. لكن في المستقبل، إذا استمر الانقسام والاستقطاب في السياسة الإقليمية، قد تجد حماس صعوبة أكبر في الحفاظ على هذا التوازن.
وقد يكون اختيار حماس لشركائها الإقليميين اليوم مهما بالنسبة إلى استراتيجيتها الإجمالية وتماسكها الداخلي في المدى الطويل، بما قد يؤدّي إلى تغيير التوازن بين أهدافها السياسية والعسكرية.
المصدر: العرب