رجب طيب اردوغان الذي كان يريد الصلاة في «الجامع الأموي» ويتحدث عن حلب كأنها حارة في اسطنبول، ويتناول المكونات الطائفية والعرقية السورية كأنها محميات او خصوم يجب تطهيرها، بلغ لحظة الخطر!
لم يسبق أن كان اردوغان بمثل هذا الاضطراب والاستفزاز خلال السنوات الخمس من الحرب في سوريا، وعليها. وأمام ما يجري حوله، في الشمال السوري وفي الدم المسفوك في الشوارع التركية بالامس، يتأرجح الرئيس التركي ما بين احتمالين: الجنوح الى العقل واعادة التموضع، او الاقدام على خطأ اخير قاتل. محاولة المزج بين الاحتمالين لم يعد لها معنى.
ماذا ستفعل أنقرة الان؟ فكلما انتكست أذرع اردوغان في الداخل السوري، وارتبك حكمه، كلما سال دم في الشوارع التركية. غريبة قد تبدو هذه المعادلة بالنسبة الى كثيرين، لكن الاكثر غرابة انه كلما كبر الخوف بين المواطنين الاتراك من المستقبل، كلما ذهب اردوغان موغلاً اكثر في الحريق السوري. «صفر مشكلات» صارت اضحوكة سياسية. النيران من حوله في كل مكان، وفي الداخل التركي. فإلى أين سيمضي من هنا؟ هذا هو على ما يبدو، السؤال الكبير.
لم تكن هذه المعادلات اكثر وضوحاً مما هو حاصل الان. ولا حاجة للعودة الى تاريخ الدخول الروسي العاصف قبل نحو خمسة شهور. بالامس، رمت السلطات التركية كرة النار من بين يديها في كل الاتجاهات. قالت صراحة ان الاكراد السوريين والنظام السوري، مسؤولون عن التفجير الانتحاري الذي اوقع نحو 100 قتيل وجريح في شوارع أنقرة. ليست المرة الاولى التي ينجح فيها اردوغان في محاولة الاستفادة من تفجيرات تطال مواطنيه، لتعزيز الثقة بسياساته. فعلها من قبل في تفجيرات سوروتش والسلطان احمد والريحانية وغيرها.
قبل التفجير الانتحاري في انقرة بيومين، انبرى اردوغان للحديث صراحة عن عزمه تغيير «قواعد الاشتباك» في الشمال السوري، بعدما تهاوت معاقل مسلحيه في ارياف حلب. حدد مدينة اعزاز السورية كـ «خط احمر» أخير يمنع المقاتلين السوريين الاكراد من اسقاطه. ابتلع بألم «خسارة» بلدة تل رفعت قبلها، وشاهد بعجز تقدم الجيش السوري والحلفاء (ايران و «حزب الله») في ارياف حلب.
تبلور مشهد الارتباك الاردوغاني بوضوح اكبر منذ تحرير سلمى في الريف اللاذقاني، وتوالي الانتكاسات التركية – السعودية، بتقهقر الفصائل المسلحة على محاور وجبهات عدة، في الشمال والجنوب، وآخرها بالامس في كنسبا التي قد تفتح لاحقا بوابات جحيم اضافية على فصائل تقاتل منذ سنوات بأموال وتسليح تركي – سعودي، في محافظة ادلب، في ظل ما جرى ويجري في ارياف حلب واللاذقية ودرعا.
اذن، بدا أن اردوغان يحاول مجدداً التلاعب بالمعادلات الحارقة ذاتها. يتيح له ذلك اما ترك هوامش اكثر رحابة له للابتزاز السياسي في ما يتعلق بمستقبل المشهد السوري، او العمل على توسيع احتمالات التورط اكثر في النار السورية، اذا كان سيصل غدا الى مرحلة اتخاذ القرار .. الخطر.
وفي ظل فورة التهديدات اللفظية بتدخل بري تركي – سعودي، سرعان ما بدت انها لا تتمتع بتأييد، لا اوروبي ولا اميركي، ظهر خياران في حال قرر اردوغان التدخل برياً لمنع تحرير إعزاز، كلاهما مر. فإما التوغل العسكري التركي مباشرة نحو إعزاز من دون غطاء من سلاح الجو التركي، وهو سيجعل قواته مكشوفة في معركة خاسرة، او ارتكاب «الخطأ» الذي يتشوق له الحلفاء الروس والسوريون، بالتجرؤ بارسال قوات برية تركية الى إعزاز بحماية مقاتلات جوية تركية، غالب الظن ستتولى أنظمة الـ «اس 300» و «اس 400»، تحييدها على عجل، تنفيذاً للوعيد الروسي بالانتقام لاهانة اسقاط مقاتلة «السوخوي» الروسية في اواخر تشرين الثاني الماضي.
وربما بسبب ذلك، ولادراك القيادة العسكرية التركية صعوبة الخوض بمثل هذه المغامرة الخاسرة مباشرة، تحدثت التقارير بالامس عن ادخال مئات المسلحين السوريين و «الجهاديين» من تركيا الى إعزاز، وبينهم من جرى نقلهم من ادلب الى الداخل التركي ومن هناك الى المدينة السورية التي اقتربت منها «وحدات حماية الشعب» السورية الكردية التي اجتمع سلاحا الجو الاميركي والروسي على حمايتها من السماء.
ومنذ السبت الماضي، تقصف المدفعية التركية بوتيرة يومية مواقع يسيطر عليها المقاتلون الأكراد قرب إعزاز. وذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان» المعارض، إن ما لا يقل عن 500 مقاتل سوري عبروا الحدود التركية إلى إعزاز، بينما قالت مصادر لوكالة «رويترز» إن «ألفين على الأقل من المقاتلين دخلوا البلاد مرة أخرى من تركيا خلال الأسبوع الماضي»، مضيفة أن «القوات التركية سهلت نقل مقاتلي المعارضة من جبهة لأخرى على مدى عدة ليال، ورافقتهم سراً لدى خروجهم من محافظة إدلب، وسفرهم لمدة أربع ساعات داخل تركيا، ثم دخولهم سوريا مرة أخرى لدعم إعزاز».
ونقلت «رويترز» عن أبو عيسى، أحد قادة «الجبهة الشامية» التي تدير معبر باب السلامة الحدودي، «سمحوا لنا بنقل كل عتادنا، من أسلحة خفيفة إلى ثقيلة، من قذائف وراجمات صواريخ حتى الدبابات».
تفجير انقرة الانتحاري يسقط على لحظة عنوانها اقتراب استعادة الريف الشمالي لحلب، وجوهرها إعزاز. حملة «التأديب القمعي» التي يمارسها اردوغان ضد القرى الكردية في الداخل التركي، متصلة باعتقاده بخطر الكانتون الكردي الذي يحذر منه، من جرابلس الى عفرين. إعزاز، تقع في قلب هذا الخط الكردي. وإعزاز بهذا المعنى، هي الذريعة الاخيرة، لكنها محرجة وقاتلة في الوقت ذاته، اذ ان «خطرها» بالنسبة اليه، قد يكون اكبر من «خطر» الرئيس بشار الاسد، بعدما رفع منذ خمسة اعوام شعار اسقاطه حتما، فيما قوات الجيش السوري تتابع بمثابرة استكمال تحرير الريف الحلبي.
فماذا سيفعل اردوغان الان؟ هل يقرر المقامرة بتحدي الروسي والسوري والايراني (بالاضافة الى الاميركي) في معركة المصير هذه؟ كيف يمكن ان تكون الاخبار اكثر قتامة من الان وها هي كنسبا يستعيدها الجيش؟ وهي معركة تعني بوضوح ان الرهان القديم على ريف اللاذقية المرتبط بحلفائه من الفصائل التركمانية وغيرهم، للضغط على الحاضنة الشعبية للنظام في الساحل، والذي هو بتماس مع لواء الاسكندرون والبحر المتوسط، اخذ بالتبدد رويدا رويدا في الكيلومترات الاخيرة المتبقية تحت سيطرة المسلحين.
وبذلك اصبح الجيش السوري اكثر قرباً من محافظة ادلب، اذ تبعد كنسبا عن حدودها 3 كيلومترات، وعن جسر الشغور نحو 13 كلم، واكثر قرباً من الحدود التركية ـ السورية. وبحسب المصادر الميدانية، يكون الجيش قد سيطر على مساحة 750 كلم مربعا منذ بدء عمليته العسكرية ويبقى 135 كلم مربعا تقريبا أي ما يقارب 18 في المئة من مساحة الريف، يسيطر عليه المسلحون ويتواجدون في قرى ابرزها كباني، شحرورة، البيضاء، بيت جناورو، والكندة وبعض المزارع الصغيرة.
تتهاوى تمنيات اردوغان في الشمال السوري، الحاضن التاريخي بالنسبة اليه للمشروع «الاخواني» وامتداده الى حماه وريفها. «السيادة السورية» تقترب تدريجيا نحو احد معبري منظمة ضخ الدعم التركي الى الخراب السوري، أي الى «باب السلامة» في اعزاز (الى جانب معبر باب الهوى في ادلب). وقد شاهد اردوغان من قبل خسارة معبر تل ابيض لصالح المقاتلين السوريين الاكراد.
امام هذا القهر، قد يرتكب اردوغان «الخطأ القاتل». وفي هذه اللحظة قد يغدو اكثر تهورا وخطرا، لا على تركيا، وانما على مجمل المشهد الاقليمي المضطرب، خصوصا اذا ما فتحت قريبا معركة ادلب، وتحطم «جيش الفتح»، احد اوراق رهاناته السورية الكبرى.
الدب الروسي ماض في خياراته. تقليم اظافر اردوغان عملية متواصلة بروية وثبات. حتى جدول اعمال التسوية السلمية، يعيد الروس ترتيب بنوده بلي الذراع تارة، وتارة اخرى بالتفاهم مع الاميركيين. اردوغان ينادي الاميركيين منذ ايام «انا حليفكم». ترد واشنطن بعبارات فضفاضة: لا خطط لغزو بري، ولا خطط لمنطقة حظر جوي، وبالامس رفضت الخارجية الاميركية تبني الاتهام التركي الرسمي بضلوع الاكراد بالتفجير الانتحاري في انقرة. ادارة باراك اوباما ليست بوارد اشعال حرب اقليمية شاملة في عام انتخابي.
فالى ماذا يرمي الاتراك - والسعوديون -؟ يختصر مصدر مطلع ان تصريحات الرياض وانقرة، بما في ذلك التلويح بعمل بري ثم التراجع عنه، تشير الى محاولات لتحقيق مكاسب آنية محدودة، تتحايل على مسار التنسيق الروسي – الاميركي، المؤيد بما يشبه الاجماع الاوروبي، بأن ابواب الجحيم السوري، يجب ان تغلق... ولو مؤقتا. اما الاندفاعة الروسية السورية الايرانية، فانها، كما تشهد ميادين الجبهات السورية الواسعة، تتولى اسقاط الاهداف التركية المرفوعة منذ خمسة اعوام، تباعا.

الاتهام التركي
الى ذلك (الوكالات)، قال رئيس الحكومة احمد داود اوغلو إن «حزب العمال الكردستاني» و «وحدات حماية الشعب» الكردية يقفان خلف التفجير الذي استهدف حافلات عسكرية في أنقرة.
وقال داود اوغلو «هذا الهجوم الإرهابي نفذته عناصر من المنظمة الإرهابية في تركيا (حزب العمال الكردستاني) وميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا»، مضيفا إن «للهجوم صلة مباشرة بوحدات حماية الشعب الكردية».
وقال داود اوغلو إن «اسم منفذ الاعتداء صالح نصار، وقد ولد في العام 1992 في مدينة عامودا (في محافظة الحسكة) بشمال سوريا»، فيما ذكرت وسائل إعلام انه تم تحديد هوية «الانتحاري» من خلال بصماته المسجلة لدى مصلحة الهجرة عند دخوله مؤخرا إلى تركيا بصفة لاجئ.
واعتبر أن «وحدات حماية الشعب إحدى أدوات النظام السوري، وبالتالي فإن النظام السوري مسؤول بشكل مباشر عن هجوم أنقرة، وتحتفظ تركيا بالحق في اتخاذ كافة التدابير ضده».
إلى ذلك، قتل ستة جنود أتراك وأصيب عدد من الأشخاص في هجوم على قافلتهم قرب ديار بكر في جنوب شرق تركيا، نسبته مصادر أمنية إلى المقاتلين الأكراد.

الرد الروسي
قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، رداً على سؤال عما إذا كانت روسيا ترى احتمالاً لدولة كردية في سوريا، إن «موسكو تؤيد سوريا غير مقسمة».
وكررت أن توغل أي قوة أجنبية داخل الأراضي السورية سيكون غير قانوني.
واعتبرت زاخاروفا أن تطبيق مشروع «منطقة حظر طيران» في سوريا لن يؤدي إلى شيء باستثناء تكرار السيناريو الليبي. وقالت «لا يريد أحد تكرار السيناريو الليبي. وسبق للمجتمع الدولي أن اختبر هذه الفكرة، وباتت نتيجتها ملموسة ليس في ليبيا فحسب، بل وفي أوروبا أيضا»