في الجدول الذي يحتوي على أرقام الهطولات المطرية المحسوبة في 33 محطة متوزعة على مختلف الأراضي اللبنانية، لا يرد اسم قضاء الهرمل في القائمة التي تعدها وتجمعها مصلحة الابحاث الزراعية التابعة لوزارة الزراعة اللبنانية.
سبب ذلك أن المعنيين في الوزارة نسوا تزويدَ مكاتبهم هناك بالمعدات اللازمة وتكليفَ أحد الموظفين الكثر ـ العاطلين عن العمل فعليا ـ القيامَ بتلك المهمة البسيطة التي لا تحتاج لأكثر من ساعة يوميا من أجل إتمامها.
قبل بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 أقامت الدولة مرصدا للأحوال الجوية في تلك المنطقة النائية، كانت مهمته ـ بالإضافة لحساب كمية المتساقطات ـ تسجيلَ الحرارة والضغط الجوي على امتداد السنة. مع اندلاع الحرب، توقف العمل فيه تدريجيا وغابت معالمه البسيطة لاحقا، لكنه لم يبصر النور من جديد مع توقفه آخر التسعينيات من القرن الماضي، بينما بقيت الهرمل حاضرة بقوة في كل خطب وزراء الزراعة ـ لا سيما منهم أهل البيت - لأنها تحتوي على الآلاف من الدونمات الزراعية والناخبين. قاسم حرب، تلميذ الجغرافيا في الجامعة اللبنانية، تطوع لإنجاز ما قصّرت عن تنفيذه الدولة.
منذ نحو أكثر من عشرين عاما يثابر على تسجيل هذه الأرقام. بداية، كان يفعل ذلك بالطرق التقليدية عبر أوعية الجمع والقياس الزجاجية، لكن الطالب الذي صار لاحقا مدرس المادة في ثانويات الهرمل راح يعتمد أكثر على التقنيات الحديثة بعد أن حمل له أخوه المهاجر من بريطانيا جهازا الكترونيا خارجيا يساعده على انجاز المطلوب ـ لا سيما أثناء غيابه ـ ويرسل له كل المعلومات المطلوبة إلى جهاز آخر مثبت داخل البيت حيث يتم تخزينها للرجوع إليها لاحقا، هو يقوم بذلك لتعويض النقص الحاصل وتزويد بعض طلاب الدراسات الجامعية بهذه الجداول ضمن مراجع أبحاثهم، مؤكدا أن تلك الأرقام والإحصائيات تفيد في جدولة مواعيد الروزنامة الزراعية وترشيد أنواع المنتوجات الملائمة للمناخ.
حرب كان قد أنهى دراسة الماجستير قبل سنوات عديدة، لكن متطلبات الحياة لم تسمح له بإكمال حلمه بنيل شهادة الدكتوراه، هو الذي كان يطمح لدراسة ظاهرة الضباب التي تكثر في شتاءات البقاع الشمالي عموما وتأثيرها على السكان والمزروعات. يبتسم قاسم قائلا: "قبل سنوات كان البعض ـ كمزارعي القمح الشتوي ـ يتصل بي لمعرفة توقعاتي المناخية حيث كنت أتنبأ بذلك ليومين تقريبا ضمن دائرة قطرها ستين كيلومترا، اليوم صار الكل يعرف عبر الانترنت ونشرات الطقس ضمن الفترات الإخبارية على الشاشات". الطريف في الأمر أن سؤال بعض المعنيين في الوزارة عن أسباب استبعاد الهرمل، بعث في نفوسهم الدهشة والاستغراب والاستهجان، مؤكدين أن هناك خطأ ما دون شك: خطأ عمره أربعون عاما بالتمام والكمال.
لبنان 24