فاجأ مؤخراً القضاء الإيطالي في محافظة بوليا المهتمين بقطاع الزيتون على الصعيد العالمي، وخاصةً المتابعين للمرض الذي يفتك بالأشجار المعمّرة في سلانتو إحدى مناطق محافظة بوليا... بإحالة المدعي العام على التحقيق عشرة من الخبراء الزراعيين والمسؤولين في الدوائر الرسمية المعنية في المنطقة بتهمة "إدخال ونشر بكتيريا كسيليللا فاستيديوزا (Xylella Fastidiosa) والتسبب في تفشي مرض أطلق عليه متلازمة اليباس السريع لأشجار الزيتون (The Olive Quick Decline Syndrome)". كما جمّد هذا القاضي العمل بخطة الطوارئ التي تتضمن قلع وإتلاف الأشجار المصابة والمشكوك في إصابتها، بحسب موقع "اوليف اويل تايمز"، وهو من أكبر المواقع المتخصصة بشجرة الزيتون وإنتاجها في العالم. فما هو هذا المرض وكيف نشأ وانتشر؟ وهل يمكن أن يمتدّ إلى الدول المجاورة، لاسيما دول حوض المتوسط وبينها لبنان؟ وكيف؟ وما هي سبل الوقاية منه في لبنان والعالم؟

في أحدث تقرير شامل صدر عن المفوضية الأوروبية يعرّف ببكتيريا كسيليللا فاستديوزا بأنها "واحدة من أعنف البكتيريا النباتية في العالم التي يمكن أن يكون لها تأثير اقتصادي هائل". كما يفسّر التقرير بأن هناك أربع سلالات مختلفة من هذه البكتيريا وأن السلالة التي تم تحديدها في محافظة بوليا هي سلالة معدَّلة جينياً وقد أصابت أشجار الزيتون واللوزيات وبعض أشجار الزينة حتى الآن مما يهدد الاقتصاد والتراث والمناظر الطبيعية في هذه المنطقة بأكملها. وكانت قد اتخذت السلطات الإيطالية والدوائر المختصة في المفوضية الأوروبية إجراءات للحدّ من انتشار المرض ومحاصرته، وذلك بوضع خطة طوارئ تقوم على إقفال المنطقة المصابة ومنع خروج مواد نباتية منها وقطع وإتلاف آلاف من الأشجار المعمّرة المصابة والمحيطة بها.

بدأ الحديث عن هذه المرض في صيف عام 2013، حيث أعلن لأول مرة عن عوارض يباس سريع يصيب أشجار الزيتون المعمّرة في منطقة سلينتو؛ وهي جزء من محافظة بوليا الايطالية الأهم والأشهر في زراعة الزيتون، بما أنها تنتج 40٪ من إنتاج الزيت في إيطاليا و 12٪ على الصعيد العالمي، وهي تضم حوالي 60 مليون شجرة زيتون من بينها حوالي 5 ملايين شجرة عمرها يتراوح بين مئات وآلاف السنين، وكانت قد أعلنتها منظمة الأونيسكو من التراث العالمي بسبب قدمها وندرتها وعددها الهائل المركّز في منطقة محددة. في البداية أصيبت مئات من الأشجار المعمّرة بهذه العوارض ثم انتشر المرض حتى أصبح يهدد حوالي مليون شجرة زيتون في منطقة سلينتو التي تضم 10 ملايين شجرة. ثم طالعتنا الأخبار بأن هذا المرض ظهر على الزيتون في مناطق مجاورة إيطالية وفي جزيرة كورسيكا الفرنسية.

كيفية الانتشار

من المعروف عالمياً بأن بكتيريا كسيليللا فاستديوزا تصيب العديد من المزروعات من نباتات وأشجار مثمرة وزينة، ولم يكن هناك أي حالات إصابة على أشجار الزيتون إطلاقاً. هذه البكتيريا معروفة في أميركا الجنوبية وتصيب خاصة نبتة القهوة والحمضيات. كما تصيب هذه البكتيريا الكرمة، حيث تُسمى في أميركا مرض بيرس (Pierce Disease) والذي أدى في ما مضى الى القضاء على هذه الزراعة في جنوب كاليفورنيا. كما تصيب هذه البكتيريا الحمضيات في البرازيل وتسبب أضراراً فادحة. تعيش هذه البكتيريا وتتكاثر داخل الأوعية الناقلة للماء والغذاء في لحاء الشجر وتدريجياً تضيّق هذه الأوعية حتى تغلقها نهائياً. هذا الأمر يؤدي الى اصفرار الأوراق ثم جفافها وبشكل سريع تموت الشجرة. وقد أصبح واضحاً الآن بأن الإصابة تنتقل بفعل الحشرات الماصة للعصارة عندما تنتقل من شجرة مريضة الى أخرى سليمة أو عبر الشتول المصابة عند تأسيس البساتين الجديدة، ولا ينتقل المرض بالهواء.

صعوبة المكافحة

مكافحة هذه البكتيريا ليس بالأمر السهل، فاستخدام المضادات الحيوية (Antibiotic) ليس مسموحاً في الزراعة ولا هو بأمرٍ سهلٍ أو فعّالٍ، لأنه لا يصل الى داخل أنسجة الشجرة، كما لا يمكن استخدامه على صعيد واسع. بعضهم اقترح مكافحة الحشرات الناقلة وهذا الأمر يتطلب استخدام كميات كبيرة من المبيدات الحشرية مما يسبب أضراراً بيئية هائلة وليس بمضمون النتيجة بما أن الحشرات قد تكوّن مناعة على المبيدات إذا استخدمت بشكلٍ شاملٍ وعشوائي. يبقى الحلّ الأسهل ولكن الأعلى كلفة وهو قلع وحرق الأشجار المصابة والمشكوك في إصابتها تمهيداً للقضاء على مصادر تكاثر وانتقال هذه البكتيريا الى الأشجار السليمة.

هل يصل المرض الى لبنان؟

يطرح البعض بأن هناك مخاطر كبيرة من أن ينتشر المرض في أنحاء إيطاليا ومن ثم الى إسبانيا ومناطق إنتاج الزيتون الأخرى، مما قد يهدد فعلاً صناعة زيت الزيتون العالمي. ولكن الأمر قد لا يصل الى هذا الحدّ خاصة إذا تم اتخاذ إجراءات فعّالة من قبل الدول التي أصيبت بالمرض أو الدول التي يمكن أن ينتقل إليها. كما أن الإصابة بعد سنوات عدة مازالت محصورة في منطقة محددة من جنوب إيطاليا، حيث يسود مناخ متوسطي معتدل ودافئ ولم ينتشر الى المناطق الأخرى الأقل دفئاً. ولكن هذا الأمر يصبح مقلقاً بالنسبة الى لبنان وهو ذو مناخ مشابه، أي أن إمكانية انتقاله الى لبنان واردة.

أما وسائل الانتقال الممكنة فهي المواد النباتية الملوّثة كالشتول المستوردة والحشرات الماصّة والحاملة للبكتيريا. أما على أرض الواقع فلم يتمّ حتى الآن تسجيل عوارض شبيهة بعوارض هذا المرض في لبنان، أي يباس سريع ومفاجئ وموت الأشجار. بالطبع هناك آفات أخرى تسبب يباساً جزئياً أو كلياً لأشجار الزيتون كمرض ذبول الفرتسيليوم أو حشرة حفار الساق وهي آفات معروفة ويمكن اكتشافها من قبل المهندسين الزراعيين والمختبرات المتخصصة في الأبحاث العلمية الزراعية.

كل هذه التطمينات ينبغي أن لا تصيبنا بالاسترخاء والإهمال، فالتنبّه والرقابة المشددة والمتابعة الدائمة واجب على كل عامل في قطاع زراعة الزيتون. على المزارع ألا يهمل بساتينه ويبادر الى تطبيق المعاملات الزراعية الجيدة وأن يراقب أي ظهور لعوارض يباس غريبة ويبلّغ المراكز الزراعية التابعة لوزارة الزراعة والمنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة. أما المهندسون والمرشدون الزراعيون العاملون لدى وزارة الزراعة والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية والقطاع الخاص، فعليهم التنبّه الدائم والتأكّد من أي عوارض شبيهة قد يشاهدونها خلال تجوالهم في بساتين الزيتون. كما هناك دور هام لمراكز الأبحاث العلمية والجامعات في متابعة تطوّر المرض والمراقبة الدائمة وبالتأكيد وإدراجه على قائمة الأولويات في البحث العلمي.

انطلاقاً من هذه المعطيات، لا بدّ من الإبقاء على الاستنفار الدائم ووضع خطة للمواجهة ومنع وصول المرض الى لبنان والإبقاء على الأعين مفتوحة من قبل الجميع لرصد أي عوارض يباس تظهر على أشجار الزيتون أو على أي نوع من أنواع المزروعات الأخرى والتأكد من أسبابها. فزراعة الزيتون تشكل حوالي ربع مساحة الأراضي الزراعية ويستفيد منها ما يقارب المئة ألف لبناني. هي ثروة اقتصادية وبيئية لا بد من أن تنال كل الاهتمام والحماية من أي ضرر قد يُصيبها.

للحماية من انتقال المرض

ـ إن أهم وسائل الانتقال الممكنة للمرض والبكتيريا هي المواد النباتية الملوّثة كالشتول المستوردة من المناطق الموبوءة أو القريبة منها والمصابة أو الحاملة للبكتيريا.

ـ هنا يأتي دور السلطات المختصة التي تُصدر أذونات الاستيراد وأجهزة الرقابة على المعابر الحدودية لمنع هذا الأمر.

ـ أما الوسيلة الثانية لانتقال المرض فهي الحشرات الماصّة والحاملة للبكتيريا. ولكن يصعب عليها قطع مسافات كبيرة والوصول الى لبنان إلا في حال كانت مختبئة في وسائل النقل أو البضائع المستوردة وقد يكون عددها أو كمية البكتيريا التي تحملها غير قادرة على نشر المرض لأسباب عدة.