معظم المعطيات التي تتراكم عند الشريكين الروسي والإيراني، تشي بأن الأزمة السورية قد وضعت على قطار التسوية السياسية. حُددت هوية معظم الركاب وهوية القبطان، لكن تحديد سرعة القطار، والمحطات التي يمكن أن يتوقف فيها، وكذلك النقطة الأخيرة التي سيبلغها «كلها أمور متوقفة على الميدان السوري».
بهذه العبارة يقارب مرجع لبناني المجريات السياسية والعسكرية السورية، غير آبه بكل ما يجري من تطورات على الساحة الداخلية، خصوصاً بعد خطاب الرئيس سعد الحريري الأخير في ذكرى 14 شباط، وهو الخطاب الذي علّق عليه قيادي بارز في «8 آذار»، أمس الأول، بالقول إنه «خطاب العودة إلى السعودية.. لا إلى بيروت»!
شمّر الإيرانيون والروس عن سواعدهم بطريقة غير مسبوقة منذ خمس سنوات. الانخراط الخجول لـ«حزب الله» في الأزمة السورية في مطلع صيف 2012، بعنوان «حماية المقدسات الدينية» صار لزوم ما لا يلزم. الآن، لا يخجل الحزب من تكريسه عملياً معادلة «سنكون حيث يجب أن نكون»، وهي معادلة جعلت الحزب ومعظم حلفاء النظام السوري، ينتشرون على طول الخريطة السورية، وبالتالي صاروا شركاء في حرب لم يعد سراً أن من يقرر فيها ليس طرفاً وحيداً بل مزيج من الشركاء، بينهم جيش دولة عظمى.. وتشكيلات فدائية لحزب ولد في ثكنة عسكرية مهجورة في البقاع قبل 34 عاماً.. وصار اليوم قادراً على التأثير في المعادلات الإقليمية التي تتجاوز ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
حتى الآن، لا هاجس لدى حلفاء النظام السوري من احتمال إمكان انخراط السعوديين والخليجيين في حرب برية على الأرض السورية بعنوان دعم المعارضة السورية المعتدلة ضد «داعش»، ولكن يكون مضمونها تمدد مظلة الحماية الملتبسة لتشمل لاحقا «داعش» و«النصرة» وأخواتهما!
هذه الفرضية غير واردة في قاموس أي منهم. هناك سؤال مختلف يتعلق بالمدى الذي يريده الأميركيون للدور السعودي أو التركي في معادلة المنطقة و«الجبهات المفتوحة» في سوريا والعراق، وذلك بهدف احتواء الاندفاعة الروسية ـ الإيرانية التي لا مثيل لها منذ بداية الأزمة السورية.

«الشريك السني» في الحرب ضد الإرهاب التكفيري
في المعطيات أن الأميركي، ومذ قرر إعادة تنظيم وجوده العسكري في العراق تحت مظلة «خبراء» يتولون تدريب الجيش العراقي والمقاتلين الأكراد في مواجهة الإرهاب، بدأ يعزز القناعة، دولياً، «حول ضرورة إيجاد شريك سني يخوض المعركة ضد الإرهاب التكفيري»، خصوصاً أن سلوكيات بعض مجموعات «الحشد الشعبي» والمجموعات الكردية المسلحة، كان مردودها سلبياً لا بل أدانته مرجعيات دينية وسياسية وعواصم إقليمية ودولية.
بهذا المعنى، يمكن أن تؤدي تحضيرات ومناورات «التحالف الإسلامي» واجتماعات رؤساء أركان «التحالف الدولي» إلى تنظيم انخراط السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في معركة الموصل ودير الزور والرقة في مواجهة «داعش»، بحيث يؤدي ذلك تلقائياً الى جلوس هذا «الشريك السني» للمرة الأولى على طاولة المفاوضات الإقليمية التي سترسم مستقبل سوريا والعراق، وفق إيقاع لن يكون بعيداً عما سيرسم لليمن (يجري الحديث عن مبادرة روسية جديدة منسقة مع الإيرانيين قد تشكل مخرجاً للسعوديين ولباقي أطراف الصراع هناك).
ولعل لسان حال الروس والإيرانيين أن مستويات التنسيق بينهما سياسياً وعسكرياً وأمنياً، قد بلغت حدود الشراكة الكاملة على أرض سوريا، ومن يراقب غرف العمليات في الشمال السوري، يدرك القيمة الميدانية لهذه «الشراكة» من خلال تكامل منظومتي الجو والبر في أكثر من معركة، خصوصاً في ريف اللاذقية الشمالي كما في ريف حلب الشمالي والغربي.
والمفارقة اللافتة للانتباه أن ذلك يحصل وفق إيقاع أميركي متفهم الى حد كبير، برغم بعض التناقضات أحياناً، لكن الإيرانيين يلمّحون إلى أن مواقف الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية في الملفين السوري والعراقي باتت أقرب الى وجهة النظر الروسية ـ الإيرانية أكثر من أي وقت مضى.
حتى أن كل مسار فيينا، ثم جنيف وميونيخ، يتحرك على إيقاع المبادرة الإيرانية التي كانت مؤلفة من أربع نقاط: وقف إطلاق النار، تشكيل حكومة وحدة وطنية، إجراء تعديلات دستورية، إجراء انتخابات (نيابية ثم رئاسية) بإشراف أممي وبمشاركة حتى السوريين الذين هُجّروا سواء في بلدهم أو الى دول الجوار، بكل ما يمكن أن تتضمنه هذه الخطوة من مجازفة، نتيجة قدرة القوى الإقليمية التي تحتضن اللاجئين السوريين على التأثير في خياراتهم الانتخابية.
ومن الواضح أن العودة السريعة للموفد الدولي ستيفان دي ميستورا الى سوريا كانت منسقة مع المجموعة الدولية، والهدف واضح وهو محاولة سحب البساط من تحت أقدام السعوديين والأتراك والمعارضات السورية المحسوبة عليهما، وذلك عبر إعطاء الملف الإنساني حيزه. وفي هذا السياق، يقول المواكبون لدي ميستورا الذي انتقل ليل أمس من بيروت الى العاصمة السورية، إنه ليس على جدول أعماله البحث بوقف النار بل استكمال درس النقاط الإنسانية المتفاهم عليها أميركياً وروسياً وإمكانية تنفيذها من زاوية الواقع العملي على الأرض، بما يكفل وصول المساعدات الى من يستحقونها وليس الى المجموعات الإرهابية. هذه النقطة ستقتضي وضع خريطة للعمليات الميدانية وكيفية الوصول الى النقاط التي تم الحديث عن حصارها سواء من قبل النظام أو من قبل المجموعات المسلحة (على سبيل المثال هناك مناطق محاصرة من «داعش» و «النصرة» ولا يمكن وصول المساعدات إلا عن طريق التفاهم معهما).
أما قضية وقف إطلاق النار، فإنها تدور حتى الآن في حلقة مفرغة، خصوصاً لجهة كيفية تحديد قوائم المجموعات الإرهابية التي لن تشملها هذه الخطوة (العودة الى قرارات مجلس الأمن في هذا السياق)، وهذه نقطة تثير حساسية السعوديين والأتراك الذين يريدون تمديد مظلة وقف النار لتشمل منطقة حلب (المدينة والريف) وكل منطقة الحدود السورية ـ التركية لقطع الطريق على العملية العسكرية المتدحرجة جنوباً وشمالاً.

معركة حلب إستراتيجية
في هذا السياق، يقول حلفاء النظام السوري إن معركة حلب «لن تتوقف إلا بقرار روسي مفاجئ، وهذا الأمر يسري على المعركة الحدودية وما نملكه من معطيات حتى الآن، يفيد بأن الروس ليسوا في وارد القبول بشمول وقف النار جبهة حلب الشمالية كلها وهم اتخذوا قراراً إستراتيجيا لا عودة عنه: إقفال الحدود التركية أمام حركة دخول وخروج المجموعات الإرهابية، وما جرى أمس في «تل رفعت» سينسحب على باقي المحاور، ولا يتعاطى أحد بخفة مع مضمون رسالة الروس بفتح ممثلية للأكراد في موسكو من جهة، وبرفض الأميركيين القاطع تبني التصنيف التركي للمجموعات الكردية بأنها «مجموعات إرهابية» من جهة ثانية، برغم التهويل التركي الى حد دعوة الأميركيين للمفاضلة بينهم وبين الأكراد»!
يستفيد النظام السوري أيضاً في هذه المعركة من مجموعة عناصر جديدة: ديناميكية التدخل العسكري الروسي منذ نهاية أيلول المنصرم حتى الآن، الوفرة النوعية في العدد والعتاد، وبينها بطبيعة الحال انخراط نحو ألفي مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني للمرة الأولى في المعركة، بعدما كان يتم الاكتفاء سابقاً بمشاركة الضباط والخبراء، فضلاً عن تعزيز مشاركة «حزب الله» و«الحشد العراقي» في معركة حلب، والأهم تشكيل فرقة مغاوير جديدة في الجيش السوري، جميع المنضوين فيها هم من أبناء حلب، وهم أظهروا قابلية عالية للتطوع في تشكيلات نظامية سورية تحظى برعاية استثنائية من الروس والإيرانيين و «حزب الله»، تدريباً وتسليحاً وقيادة وعمليات ميدانية، ارتفاع معنويات الجيش السوري، منظومة القيادة والسيطرة والتنسيق وتضم ضباطاً روساً وإيرانيين وسوريين ومن «حزب الله» وباقي المشاركين في العملية.
في المحصلة، ثمة موازين قوى جديدة ترتسم على الأرض السورية، وسيكون لمعركة حلب تأثيرها الكبير، ليس فقط على دفن مشروع تقسيم سوريا، بل ايضاً على رهان البعض على إسقاط النظام الحالي الذي بات يحظى بمظلة تتجاوز الروس والإيرانيين.. الى بعض العواصم الغربية التي تبعث برسائل من تحت الطاولة بعناوين مختلفة، من دون إهمال حقيقة تعاظم التنسيق المصري ـ السوري الأمني والسياسي، والذي قد يؤدي قريباً الى رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي المصري في دمشق.
وليس خافياً أن الضغط الدولي قد يؤدي الى إعادة فتح أبواب الحوار بين طهران والرياض، خصوصاً أن التوتر المتعاظم بينهما يؤثر سلباً على مجريات المعركة على «داعش»، وهذه النقطة أثارها مؤخراً وزيرا الخارجية الأميركي والبريطاني مع كل من عادل الجبير ومحمد جواد ظريف واتفقا مع كل منهما على أهمية احتواء التوتر وتفادي عدم امتداده الى بعض الساحات الإقليمية ومنها لبنان بطبيعة الحال.

لبنان وملف الرئاسة
الى أين يمكن أن تصل الأمور رئاسياً في لبنان؟
لا أحد يراهن على أي معطى إقليمي.. وما قاله الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، سيبقى ساري المفعول حتى إشعار آخر.. ولو جلس الإيرانيون والسعوديون في أحضان بعضهما البعض، لن تكون الكلمة في الاستحقاق الرئاسي لأي منهما، خصوصاً أن الإيرانيين أبلغوا كل من راجعهم أنهم يفوّضون حلفاءهم في لبنان بكل ما يتصل بالشأن اللبناني.. هذه المعادلة جعلت الرئيس حسن روحاني يبلغ نظيره الفرنسي أن ما يوافق عليه المسيحيون في لبنان ويحظى بإجماعهم، نحن موافقون عليه.
هل للإجماع المسيحي أن يتحقق أبعد من معادلة معراب؟
لننتظر الى أين ستفضي محاولة العماد ميشال عون إعادة فتح الأبواب مع السعودية. حتى الآن، ما زالت مقفلة، والرهان هو على إمكانية الاستفادة من قدرة أطراف إقليمية أو دولية على فتحها.. وفي الانتظار، لا خوف على الاستقرار.. والانتخابات البلدية على الأبواب.. والحكومة مرشحة لرفع منسوب إنتاجيتها.. أما «هيئة الحوار» فقد باتت كما يسميها أحد الأقطاب هي «الحكومة الفعلية»، وتوازيها «حكومة مصغرة» تمكنت من صياغة معظم القرارات السياسية والأمنية والإدارية.. وتقتصر عضويتها على «حزب الله» و «المستقبل» بالشراكة الكاملة مع الرئيس نبيه بري.