بمزيد من الشوق والعزم والحزم عاد الرئيس سعد الحريري إلى بيروت فجر الرابع عشر من شباط متجاوزاً كل المحاذير الأمنية ليتقدم الصفوف الوطنية في إحياء ذكرى الرئيس الشهيد وليعلن «على رؤوس الأشهاد: على نهجك مستمرون أبا بهاء ولو كره الكارهون». وإذا كان بعودته طمأن اللبنانيين قولاً ويقيناً إلى أنّ أحداً لن يتمكّن «من السطو على الجمهورية بأي من وسائل التعطيل والفوضى»، حرص الحريري في خطاب 14 شباط على «بقّ البحصة» الرئاسية تبديداً لكل خيوط التحليل والتأويل التي حيكت حول مبادرته الرئاسية الأخيرة، فروى على الملأ وعلى مرأى ومسمع من الجميع، خصوماً وحلفاء، الرواية الحقيقية الكاملة لسياق مبادراته المتتالية بهدف إنهاء الشغور الرئاسي، وصولاً إلى وضعه خلاصة دستورية واحدة اليوم برسم معطلي الانتخابات ليس عنها محيد لانتخاب الرئيس: «بات لدينا ثلاثة مرشحين الوزير سليمان فرنجية، الجنرال ميشال عون والنائب هنري حلو (...) تفضّلوا إلى مجلس النواب وانتخبوا رئيساً إلا إذا كان مرشحكم الحقيقي هو الفراغ».

وفي الكلمة التي ألقاها من على منبر ذكرى 14 شباط في «البيال» وسط مشاركة رسمية وروحية ومدنية وشعبية حاشدة وبنصاب مكتمل لمختلف قادة وشخصيات قوى الرابع عشر من آذار، استهل الحريري استعراض الرواية الكاملة لمبادراته المنطلقة من أنّ مصلحة الوطن تكمن في «فك الحصار عن الرئاسة والحكومة ومجلس النواب لا في المشاركة بمحاصرة مضايا وحلب والمدن السورية»، فقال: «كانت لدينا جرأة المبادرة وتحريك المياه السياسية الراكدة، نملك الشجاعة لاتخاذ الموقف والإعلان بأننا لن نخشى وصول أي شريك في الوطن إلى رأس السلطة طالما يلتزم اتفاق الطائف وحدود الدستور والقانون وحماية العيش المشترك وتقديم المصلحة الوطنية وسلامة لبنان على سلامة المشاريع الإقليمية». ثم ما لبث أن صارح اللبنانيين بأنه يعتزم «بقّ البحصة» مذكّراً باتفاق الأقطاب الموارنة الأربعة في بكركي أنه «ما من مرشّح مقبول للرئاسة إلا أحد هؤلاء الأربعة»، إلى ما كان بعد هذا الاتفاق بدءاً من عدم القدرة على انتخاب مرشح 14 آذار رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، مروراً بعدم ملاقاة ترشيح الرئيس أمين الجميل «قبولاً من قوى 8 آذار» وبعدم التوصل في الحوار مع رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون إلى نتيجة حول ملف الرئاسة مع نفيه الشائعات التي تقول إنه سبق أن رشّح عون أو حتى وعده بتأييد ترشيحه.. وصولاً إلى الوضع الراهن: «من الأربعة لم يبقَ إلا الوزير سليمان فرنجية».

وإذ أكد أنّ «التفاهم» الذي توصل إليه في باريس مع فرنجية قائم على «هدف إنهاء الفراغ ووضع حد للتدهور والعمل على تحسين وضع لبنان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والمعيشي وحماية النظام والسلم الأهلي«، أعرب الحريري عن تفاخره بالإقدام على هكذا «خطوة خلطت الأوراق وأرغمت الجميع على إعادة وضع إنهاء الفراغ الرئاسي على رأس الأولويات السياسية بالبلد«، مبدياً اعتزازه كذلك بكون هذه الخطوة «أدّت بحلفائنا «القوات اللبنانية» لأن يتوصلوا بعد 28 سنة إلى مصالحة تاريخية مع «التيار الوطني الحر« نحن كنّا أوّل الداعين إليها وأكثر المرحبين بها»، مخاطباً في هذا الإطار جعجع بالقول: «ليتها حصلت «يا حكيم» قبل زمن بعيد كم كانت وفّرت على المسيحيين وعلى لبنان».

وبعدما دعا المرشحين الثلاثة إلى الاحتكام لصندوق الاقتراع في المجلس النيابي، توجّه الحريري بحزم إلى من يحاول تحميل «تيار المستقبل» مسؤولية الفراغ ما لم يعلن تأييده ترشيح عون «وليس هناك عجلة» بالقول: «هيدي ما بتركب عا قوس قزح« ولا تنطلي على أحد.. تقاطعون كل جلسة وتمنعون النصاب ولا تقبلون إلا أن تعرفوا النتيجة سلفاً وتريدون تحميلنا نحن المسؤولية؟»، رافضاً في الوقت عينه «أن يغطّوا السموات بالقبوات» تحت ذريعة «الوفاء للحلفاء» ليشدد في المقابل على أنّ «الوفاء الأصلي هو الوفاء للبنان». وختم الحريري سرد دوافع مبادرته الرئاسية قائلاً: «نحن عند التزامنا، وعندما نعطي التزاماً نسير فيه حتى النهاية. نحن صادقون نريد رئيساً للجمهورية».

الحريري الذي جزم بأنّ «زمن الاستقواء الإيراني لن يستطيع أن يصنع قادةً أكبر من لبنان»، سأل في مقابل «من قرّر أن يقاتل في الأماكن الخاطئة وتحت شعاراتٍ خاطئة (...) والاندفاع غير المسؤول في تعريض مصالح لبنان للخطر والتحامل على الدول الشقيقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي التي لم تبادرنا يوماً بأي أذى»: هل نحن أمام أحزاب تعمل لله أم للفتنة؟»، وأردف قائلاً: «نحن عرب على رأس السطح، ولن نسمح لأحد بجر لبنان إلى خانة العداء للسعودية ولأشقائه العرب. لن يكون لبنان تحت أي ظرف من الظروف ولاية إيرانية. نحن عرب، وعرباً سنبقى«، مع تأكيده أننا «مشروع وطني عابر للطوائف خصوصاً عندما يكون غيرنا مشروعاً طائفياً عابراً للأوطان».

أما إزاء بعض التباينات الحاصلة في الرأي بين قوى 14 آذار، فدعا الحريري هذه القوى إلى «القيام بمراجعات نقدية داخلية لتتناول كافة جوانب العلاقة بين قوى انتفاضة الاستقلال بهدف حماية هذه التجربة الاستثنائية في حياة لبنان«. وفي ختام خطابه، دعا الحريري جميع قادة قوى الرابع عشر من آذار للصعود إلى المنصة لالتقاط صورة جماعية بالمناسبة «تعبيراً عن وحدة 14 آذار».

جنبلاط: كلام ممتاز

ومباشرةً بعد انتهاء خطاب الحريري، أشاد رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط من عين التينة بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري بالخطاب منوهاً بكونه تضمّن «كلاماً ممتازاً ويفتح الطريق على اللعبة الديمقراطية التي نؤيدها ونحن نتفق مع كلامه»، مجدداً التشديد على «وجود ثلاثة مرشحين فلنتفضل وننزل إلى المجلس النيابي».

استقبالات واتصالات

وكان الحريري، الذي زار ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأضرحة رفاقه الشهداء في وسط بيروت فور انتهاء مهرجان «البيال»، قد استهلّ لقاءاته السياسية ظهر أمس باستقبال جنبلاط في «بيت الوسط» والتداول معه في الأوضاع العامة وآخر التطورات. كما استقبل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وعدداً من الشخصيات المهنئة بعودته إلى بيروت. كذلك تلقى الحريري سلسلة اتصالات أبرزها من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس تيار «المردة» النائب فرنجية ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان.