لعل عودة الرئيس سعد الحريري الى لبنان، أمس، للمشاركة في إحياء الذكرى الحادية عشرة لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، «نافست» الخطاب الذي ألقاه في «البيال».
وإذا كانت العودة مرتبطة من حيث التوقيت البروتوكولي بإحياء ذكرى استشهاد الرئيس الحريري، إلا أنها بدت في دلالاتها على صلة بمحاولة تحسين شروط إدارة المعركة الرئاسية واستعادة المبادرة بعد «تفاهم معراب»، والسعي الى لملمة - ولو شكلية - للصفوف المبعثرة في «14 آذار»، وترتيب البيت الداخلي لـ «تيار المستقبل» بعد التصدع الذي أصاب جدرانه، والتحضير للانتخابات البلدية بأقل كلفة سياسية ومالية ممكنة، على قاعدة التوافق حيث أمكن، في زمن الشح المادي، إلا اذا أعيد الاعتبار لخطاب الشحن المذهبي.
لكن وجود الحريري في بيروت، الذي يرجح أن يطول كما توقعت مصادر مطلعة، سيضعه في الوقت ذاته على تماس مباشر مع استحقاق تسديد المتوجبات المتراكمة العائدة الى أصحاب الحقوق من العاملين في مؤسسات «تيار المستقبل» والعديد من المصارف وغيرهم من المؤسسات.
أما خطاب أمس بحد ذاته، فقط انطوى في العديد من جوانبه على إعادة استنساخ لأدبيات الحريري التقليدية المتعلقة بالهجوم على «حزب الله» وتدخله العسكري في سوريا وعلى السياسات الإيرانية في المنطقة، مع تكراره «ثابتة الوفاء» للسعودية.
وقالت أوساط قيادية بارزة في «8 آذار» لـ «السفير» إن هذا النوع من الخطاب «يفيد الحريري في طريق العودة الى السعودية وليس الى بيروت»، متسائلة: أين الحكمة والمنطق في أن يصر الحريري على مهاجمة الشريك الداخلي في الحوار والشراكة الوطنية وخصوصاً في استحقاق رئاسة الجمهورية؟
وأشارت الأوساط الى أن استمرار الحريري في الهجوم على «حزب الله» وإيران، كما فعل أمس، «لا يسهل أبدا وصوله الى رئاسة الحكومة»، ولا يمكن أن يشكل معبراً للتسوية المفترضة على قاعدة الشراكة معه في السلطة.
ولعل الإضافة الأساسية في خطاب «البيال» تمثلت من ناحية في «اللسعة السياسية» التي تعرض لها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ومن ناحية أخرى في الشرح الوافي والصريح الذي قدمه الحريري للحيثيات التي دفعته الى اعتماد خيار ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بعد استهلاك فرص ميشال عون وأمين الجميل وسمير جعجع، وهو شرح يتعارض مع مقاربة «القوات» و «الكتائب» لمضمون اجتماعات بكركي بين الأقطاب الموارنة الأربعة.
صحيح أن الحريري لم يعلن رسمياً عن ترشيح فرنجية ـ وهو أمر اعتبره مؤيدو رئيس «تيار المردة» أفضل «لان الترشيح الرسمي سيوحي بأن الحريري المسلم يسمّي الرئيس الماروني وهذا يضر أكثر مما يفيد» ـ لكن الصحيح أيضا أن رئيس «تيار المستقبل» لم يتنصل من التزامه السياسي حيال فرنجية، بل أكد المضي في مبادرته، محاولاً تبرير «أسبابها الموجبة» بإعلانه عن «أننا لن نخشى وصول أي شريكٍ في الوطن الى رأس السلطة، ما دام يلتزم اتفاق الطائف وحدود الدستور والقانون، وحماية العيش المشترك، وتقديم المصلحة الوطنية وسلامة لبنان على سلامة المشاريع الإقليمية».
ولئن كان البعض قد استنتج أن هذا الكلام «حمّال أوجه» وأن الحريري تعمد أن يترك الباب موارباً أمام أي احتمال رئاسي برتقالي «قاهر» قد تفرضه الظروف لاحقا، إلا أن هناك في المقابل من اعتبر أن رئيس «المستقبل» أراد ان يقول بين السطور إن «الجنرال» لا تنطبق عليه «المواصفات الزرقاء» المشار اليها أعلاه، علما أن الحريري أكد أن الحوار السابق مع عون لم يصل الى نتيجة في الملف الرئاسي «ونحن لم نرشحه، بعكس ما يقول البعض اليوم، ولا حتّى وعدناه بتأييد ترشيحه»، ملمحاً بذلك الى أن اعتراضه على عون ليس ناتجاً من «الفيتو» السعودي، كما كان يقول «الجنرال» ومسؤولو «التيار الحر»، علماً أن من يمثلون «تيار المستقبل» في حوار عين التينة أبلغوا الجالسين معهم على طاولة واحدة أن الحريري كان مستعداً وصادقاً في انفتاحه على عون لكن المشكلة هي في السعودية، وهذا ما كرره نادر الحريري أمام جبران باسيل، خصوصاً في اللقاء الذي جمعهما مؤخراً في وزارة الخارجية.
وبهذا المعنى، فإن خطاب الحريري أقفل باب «بيت الوسط» ليس فقط على ترشيح عون، بل حتى على فرصة الحوار معه بهذا الصدد، معيداً الكرة الى ملعب «حزب الله» بعدما غادرته في أعقاب الخطاب الأخير للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، وبالتالي فإن مواقف الحريري أعادت تثبيت معطيات الأزمة، ما يدفع الى استبعاد حصول أي خرق في المأزق الرئاسي قريباً.
وقد بدا الحريري حريصاً على استخدام «ديبلوماسية التقبيل» لاحتواء تداعيات الانقسام الحاصل في «14 آذار» حول الاستحقاق الرئاسي. حيث وزع قبلاته الحارة على أمين وسامي الجميل وسمير جعجع وفارس سعيد وسمير فرنجية.. وصولاً الى «المتمردين» أشرف ريفي وخالد الضاهر، علماً أن أولى الساعات التي أمضاها الحريري في «بيت الوسط» كانت حافلة بكلام من العيار الثقيل لم يستثن كثيرين، وخصوصاً الوزير أشرف ريفي.
وحتى تكتمل طقوس المناسبة، دعا الحريري قيادات «14 آذار» الى التقاط صورة جامعة.. قد تصبح تذكارية ومن المقتنيات النادرة في المرحلة المقبلة.
لكن مفعول القبل تلاشى سريعاً، مع تلاحق الرسائل السياسية «المسننة» التي أطلقها الحريري في أكثر من اتجاه، وكانت أولاها موجهة الى جعجع الذي أصابته «النيران الصديقة» مباشرة على الهواء، عندما توجه اليه الحريري بالقول: ليت المصالحة مع «التيار الوطني الحر» حصلت قبل زمن بعيد، كم كنتَ وفّرت على المسيحيين وعلى لبنان.
كان واضحاً من مضمون هذه العبارة ونبرتها، أن الحريري أراد أن يحمّل جعجع، وبحضوره، المسؤولية عن الانقسام المسيحي طيلة السنوات الماضية. وأكثر من ذلك، أوحى رئيس «المستقبل» في كلامه بأن ترشيح جعجع لعون هو مجرد رد فعل على خيار ترشيح فرنجية، خلافاً لطرح «القوات» التي تعتبر أن تفاهم معراب الرئاسي أتى في سياق مسار سياسي متكامل، قائم بحد ذاته.
ولم يكتف الحريري بهذا القدر من التصويب على جعجع، بل تعمد خلال التقاط الصورة الجامعة لقيادات «14 آذار» ترتيب الوقوف بطريقة جعلت الرئيس أمين الجميل يقف على يمينه والنائب سامي الجميل على يساره، مستبعداً رئيس «القوات» عن جواره.
وقال عضو كتلة «القوات» النائب انطوان زهرا لـ «السفير» إن كلام الحريري الموجّه الى جعجع «لم يكن في محله»، ملاحظاً أن الحريري، في معرض دفاعه عن خيار تفاهمه مع فرنجية «لم يوفر أحداً، لا صديقاً ولا عدواً، وبالتالي أخذنا في الطريق». وأضاف: «مع محبتنا للرئيس الحريري، لكننا لسنا نحن المسؤولين عن تفويت أي فرصة للوحدة، على المسيحيين أو على لبنان».
واعتبر زهرا أن مقاربة الحريري لما جرى في لقاءات بكركي بين الأقطاب الأربعة لم تكن دقيقة، «وأنا باعتباري كنت أحد المطلعين على مجرياتها أؤكد أنه لم يحصل اتفاق على حصر الترشيح بالأربعة».
ورأى زهرا أن خلاصة كلام الحريري تفيد بأن الظروف ليست ملائمة بعد لانتخاب رئيس للجمهورية قريبا، «وهو لم يطرح أي جديد من شأنه أن يشكل خرقاً للمأزق القائم».
وكانت لافتة للانتباه زيارة النائب وليد جنبلاط الى الرئيس نبيه بري بعد لقائه الرئيس الحريري، وتصريحه من عين التينة بأن خطاب الحريري ممتاز، داعياً الى ترك اللعبة الديموقراطية تأخذ مجراها، الأمر الذي وضعته أوساط سياسية في سياق إعادة تجديد «التحالف الرئاسي» الذي جمع بري والحريري وجنبلاط حول دعم ترشيح سليمان فرنجية.
وإذا كان الحريري قد قال كلمته، فإن الأنظار تتجه نحو يوم غد الذي سيكون مزدحماً بمحطات مضادة، حيث سيلقي الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله كلمة لمناسبة «ذكرى القادة الشهداء»، وسيصدر موقف عن اجتماع «تكتل التغيير والإصلاح» بعد اجتماعه برئاسة عون، كما يصدر موقف عن «كتلة المستقبل» برئاسة الحريري، وسيكون هناك موقف لرئيس «القوات» سمير جعجع من خلال لقاء إعلامي مصغر، فيما ينتظر أن تتطرق جلسة الحوار الوطني المقررة الأربعاء المقبل في عين التينة الى سبل إحداث خرق في جدار الأزمة الرئاسية.