لم تكن الديمقراطية في أحسن حالاتها إبان الصعود القومي العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعد أن وضعها القوميون على"الرف" ردحا من الزمن، لانشغالهم بأمورٍ أهم وأولى كما كانوا يُصرّحون ويعملون. فالتحرير والتنمية وقضايا الوحدة ومقارعة الإمبريالية الغربية، وصداقة المنظومة الاشتراكية، وبناء أسس عدم الانحياز، هذه مُجتمعة يمكن أن تلهي مؤقتا هذه الشعوب عن سلوك طريق الديمقراطية الوعر .
إلا أنّ أمور الديمقراطية في السبعينات والثمانينات كانت أدهى وأمر.فقد تبدلت الصورة السياسية للعالم العربي تبدلا ملحوظا منذ مطلع السبعينيات، من أفول الناصرية، وإعادة مصر إلى أحضان الغرب على يد الرئيس السادات، إلى تراجع" اليساروية"، كما يحب البعض إطلاق هذه التسمية على التيارات اليسارية وأحزابها،اختفاءً شبه تام من المشرق العربي، وحوصرت الماركسية في أكثر من بلد، في مصر وسوريا والعراق ولبنان والسودان والمغرب العربي.
في خضم هذه التحولات، أي من قمة المواجهة مع الغرب واسرائيل، إلى التحالف معه وعقد الاتفاقات، واستقدام قوات الأمم المتحدة للفصل بين دول المواجهة وإسرائيل. تمكنت الأنظمة العسكرية العربية من توطيد سلطاتها، حتى إذا دخلنا في الثمانينات. كانت هذه السلطات قد أبدت قدراً كبيرا من التماسك والرسوخ بحيث أدهشت الجميع، حتى أنّ اغتيال الرئيس السادات في مصر لم يُسقط شعرة واحدة من رأس النظام المصري، لا بل إنّ المواقع العسكرية راحت تتشبث وتتوسع من السودان إلى تونس إلى ليبيا، فضلاً عن المشرق العربي. وقد ترافق هذا الاستقرار السياسي(ذي الطابع العسكري) على مختلف الأقطار العربية،بإنهاء آخر المعاقل اليسارية المتعاطفة مع المقاومة الفلسطينية في لبنان على يد الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢، وما أسفر عنه من إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وانكفاء الحركة الوطنية اللبنانية"اليسارية" إلى دائرة التهميش. والسؤال، هل يمكن لهذه الأنظمة العسكرية التي ترتدي الملابس المدنية(عدا الاحتفالات العسكرية المهيبة) أن تتعايش مع الديمقراطية الموعودةبها هذه الشعوب منذ فجر الاستقلال؟
والجواب عند هذه الأنظمة، أنّ الحكم فيها ديمقراطي ليبرالي، أو برلماني أو حزبي، وهناك مجالس الشعب المنتخبة وفق لوائح السلطات، التي تحرص على مصالح الشعب، أكثر من حرص الشعب نفسه. ولئلا نظلم العسكريين أكثر من اللازم، فالحقّ يقال أنّ نُخباً مدنية مُتمرّسة في خرق الأعراف الديمقراطية، وتحمل شرف الولاء للعسكريين بجدارة، هي التي مهدت للنخب العسكرية توطيد سيطرتها، وتغليف مشروعية استمرارها في الحكم باضفاء طابع شرعي على أنظمة الحكم هذه، وما إن حلّ القرن الواحد والعشرون حتى كانت هذه الأنظمة تعاني أزمة حلّ المعادلة الصعبة، بين حاجة المجتمع الملحة للتغيير، وحاجة الأنظمة للبقاء في السلطة، ثم ما لبثت هذه الأنظمة-بعد تلاشي المشاريع القومية- أن فشلت في إخفاء طبيعتها التسلطية، التي تمكنت من تكوينها في فترة الصعود القومي، بل راحت تعيثُ فساداً وبطشاً في ظل التسلط،.وأضحت مدرسة ً في الانحطاط الخلُقي وجرّ العباد إلى مهاوي الفساد والإفساد. وراحت تُنمّي ثقافة الاستبداد التي تُمجّد القوة ضد "الرعاع" ،وتوزع الناس والمصالح على قاعدة درجة موالاتها ، وعمدت للاستئثار بالثروة بدل توزيعها، وتمّ تحويل الدولة إلى اقطاعات خاصة لنفوذها.
ثم راحت هذه الأنظمة تخوض المعارك الوهمية باسم الشعب الغائب، وهي إما تقوم بمغامرات عسكرية لا فائدة منها، وتستنزف قدرات شعوبها، أو تُقدّم البلاد لقمةً سائغة للنفوذ الأجنبي، حيث تترسخ التبعية، وتغرق البلاد بالمديونية الخارجية، فضلا عن الانزلاق إلى حروب أهلية مديدة، وحروب إقليمية تُثار وتُخمد حسب الطلب.
لقد ساهمت الأزمة الديمقراطية التي عصفت بالحركة القومية العربية، فكراً ونضالاً واستتباعا لجميع المستويات، مما مهّد للثورات التي نُعتت بالربيع العربي، وقد هلّت في زمن القحط والجدب، وهاهي الأمة اليوم بين نيران الفُرس والأميركيين والروس والترك، وكل ما هبّ ودبّ، ونيران النظام السوري الصامد في وجه رياح التغيير. الصورة مأساوية وقاتمة، لكنّ زهر الربيع لا بُدّ أن يعقُد، وأوان القطاف ليس ببعيد، فالشعوب هي الباقية، والطغاة إلى زوال.