كأن وسيم كريدي كان ميتاً فعاش، وضالاً فوجد، فوسيم الثلاثيني ابن الميناء في طرابلس- أغرته الهجرة مع المهاجرين إلى أوروبا. سمع الكثير، بينما يعيش قلق تشرد عائلته في حال حدث له أي مكروه، وهو أب لثلاثة أولاد. يقول: "حسبت أني ذاهب إلى بلاد تؤمن للإنسان الحياة الكريمة على ما سمعنا ممن سبقونا، فأطمئن هناك على أبنائي أن مستقبلهم مؤمن، وحياتهم أفضل". كان وسيم من أولئك الذين آثروا الهجرة مع عائلاتهم.
تدبر ما يناهز التسعة آلاف دولار، وشدّ رحاله ومضى في الطريق الذي بات معروفاً للجميع: تركيا، ومع أبو محمد، اسم معروف في تسفير اللاجئين بالالتفاف على الحدود القانونية، أبحر في زورق "زودياك" إلى اليونان التي رأى يابستها ولما يزل على اليابسة التركية. أمضى وسيم وعائلته ثلاثة أشهر في بلاد الاغتراب، وأقام في السويد معجرجاً على ألمانيا، حيث له أشقاء سبقوه منذ أكثر من عامين. وعاد منذ نحو عشرين يوماً للعمل سائقاً في مطعم "فاهيتاز" لصنع السندويشات في مدينته طرابلس، ولسان حاله يردد: "أبشع ما في لبنان أفضل بمليون مرة من الخارج". أخبار ذات صلة "بوب" يخطط للهروب عبر بحر لبنان ..."سأرحل بعد أيام" الاشتياق الى الطعام حطت طائرته في مطار "رفيق الحريري الدولي" في طريق العودة، وهرع إلى محل لبيع القهوة، محتسياً سبعة فناجين دفعة واحدة. "اردت أن أعوض فقدان القهوة اللبنانية ذات المذاق الخاص الذي افتقدته هناك. قهوتهم بلا طعم ولا رائحة".
وكان قد اتصل بوالدته طالباً أن تهيئ له حلوى الكنافة، وتضعها في البراد، فهو لن يصل إلى مدينته إلا مع الفجر حيث تكون محلات بيع الحلوى لا تزال مقفلة، ولا يستطيع الانتظار أكثر. كما انه ولدى وصوله إلى مدينته الميناء، وقبل توجهه إلى منزله، هرع إلى محل "كلسينا" المعروف ببيع الدجاج المشوي، وابتاع فروجا افتقد طعمه في السويد حيث "لا طعم للدجاج، ولا لكثير من المأكولات"، كما قال. ثلاثة أشهر من الشقاء يروي وسيم: "كدنا نموت من الجوع في الشهور الثلاثة التي أمضيناها هناك، وخسرنا صحتنا، وأهدرنا اموالنا، وذقنا الذل بكل أشكاله، على الحدود، وفي المسكن في المخيم، وفي المطبخ لدى توزيع القليل من الطعام. عدت اليوم لعملي، وأنا سعيد جداً بعذابات بلدنا بدلاً من السعادة الموهومة في الخارج". ويتابع روايته بأنه خُيِّر بأن يترك زوجته وأولاده في السويد، فهناك من يهتم بهم، ويؤمن معيشتهم، على أن يعود وحده. لكنه لم يقبل، واصرّ على العودة مع عائلته. لم يغطوا نفقات عودته إلا بشرطين، كما يقول، أن يترك عائلته هناك، أو ينتظر حتى آب المقبل 2016.
"آثرت العودة السريعة لأكثر من سبب"، يقول اللاجىء العائد مضيفاً: "صرفت على عائلتي ما تبقى لدينا من أموال، وبعد ثلاثة شهور، لم يبقَ لدينا إلا ما يؤمن عودتنا ويغطي نفقات السفر. ولو بقينا حتى آب، لما بقي بين أيدينا المال الذي أنفقناه لنؤمن بعضاً من طعامنا، فهم لا يقدمون للاجئين من الطعام إلا القليل الذي لا يغني عن جوع.
ولا يعطون للعائلة إلا ما يناهز الخمسمئة ألف ليرة لبنانية شهرياً، تكفي مصروف الحد الأدنى لمدة عشرة أيام في أحسن الأحوال". أما في الشهر الثاني، فـ"بدأنا نخسر من وزننا، وضعفت زوجتي والأولاد صحياً. لم أعد أطيق رؤيتهم وهم يصارعون مشقة الاوضاع.
فقررنا العودة سريعاً قبل فوات الأوان". ولم يتخذ وسيم قرار الرحيل لأسباب غير معروفة، فهو مثل كثيرين سواه، منهم من استقر، ومنهم من عاد، وكثيرون ينتظرون.
لكن لكل رحلة روايتها الموجعة غالباً. بدأت هجرة وسيم وعائلته أواخر الصيف الماضي. انطفأ لهيب الحر، ولم يدب الصقيع في الأرض. كان مشواراً عادياً حتى اليونان، يقول وسيم، لكن جهنم تبدأ من البر اليوناني، وفق تعبيره، فـ"علينا أن نقطع الحدود، حيث تبقى مقفلة طوال النهار، ولا يحق للاجىء الدخول إلا عندما تفتح البوابات ليلاً. كما كان علينا أن نعبُرَ على الأقدام مسافات طويلة ليلاً، "هذا أكثر ما عذبني، وأخافني على أبنائي. هم أطفال ولم يكن لدينا وسيلة للتنقل إلا السير على الأقدام، وأحياناً كثيرة في أرض مقفرة، وموحلة، فيما البرد بدأ يقسو".
مسير ساعات ويتابع عارضاً كيف حملَ ابنه الصغير على كتفه طوال الطريق التي لم تنته إلا بعد مسير ساعات طويلة، ولما وصلَ إلى المحطة التي سيستقر فيها وعائلته، أصيب بآلام استمرت ايام. أما ولداه الأكبر سناً، فقد قطعا المسافة سيراً على الأقدام، "لا أعرف كيف تحملت هذا الواقع المرير! اليوم أفكر بالأمر، ولا أصدق اننا أنقذنا، وعدنا سالمين"، يعلّق وسيم والغصة في حلقه.
وتحدث أيضاً عن العراقيل الحياتية التي تفرضها سلطات تلك البلاد على اللاجئين ومتطلبات البقاء، والحصول على الإقامة التي تستغرق عادة سنوات، وذلك خلافاً لما قاله له من سبقوه. ويؤكد وسيم أن ليس كل ما يشاع عن سعادة الهجرة صحيحاًً، وهناك تضخيم للوقائع، ولو
لم يكن يحمل أموالاً خاصة، لتعرض للكثير من السوء، كما قال.
النهار