يستحق رفيق الحريري، رئيساً وشهيداً، الوفاء. مسيرته العربية والوطنية والسياسية والإنمائية طبعت مراحل لا يمكن لتاريخ لبنان الحديث أن يتجاوزها، وهي ستبقى في كل عاصمة ومدينة وناحية ودسكرة لأزمنة طويلة كذلك، ثم إن جريمة اغتياله الارهابية أرست صورة تراجيدية من الصعب تجاوزها في المدى المنظور أو إلغاءها من عقل ووعي شريحة واسعة من اللبنانيين، وخصوصاً سنة لبنان الذين اعتبروا منذ لحظة اغتياله أنهم معنيون بوجودهم، ولجأوا لا شعورياً إلى مقارنة كل الأمور والسياسات والتطورات والهزائم، كما الانتصارات، بما باتوا يسمونه "زمن رفيق الحريري".. هو يستحق.
ولأن الرئيس الشهيد استطاع – من خارج التقليد السياسي التاريخي – أن يكون زعيماً عابراً للطوائف متصدياً بأريحية واعتداد لتبديد هواجس الآخرين، وتحمّل تبعات اللاتوازن الذي حكم فترة ما بعد الحرب، اضطرّ سنّة لبنان أن يتقبلوا هذا الواقع، لا لقناعة بأن زعامة من هذه القماشة تستطيع تغيير ما استقرّ من أفكار وسلوكيات وهواجس وحسابات في البنية البطركية للحياة السياسية والطائفية اللبنانية، بل لأن الحريري كان اتخذ قراره بذلك، ولأن الدور الذي اضطلع فيه حينها يستوجب إطلالة من هذا النوع.
ولأجل ذلك وبسبب منه، لما غاب رفيق الحريري بدت الهوة كبيرة، وساد شعور بأن الانكسار طال المرجعية والدور والتأثير. لأنه كان رسم سقفاً لا يستطيعه كثيرون.
أحد عشر عاماً، تغيرت فيها الحياة السياسية، واستجدت تطورات هائلة، لم يستطع السنة في معظم مفاصل هذه المرحلة أن يتصدروا للدور الذي أَلفوه أو افترضوه لأنفسهم، هكذا ولألف سبب وسبب كان النصاب الوطني، قراراً وتأثيراً ومشاركة، غير مكتمل. أكثر من ذلك، يكاد سنة لبنان يحتكرون التشظي والتفكك وضياع البوصلة، فـ "تيار المستقبل" الذي استحصل على شرعية التمثيل في 2009، يعاني من أزمات عميقة جداً، ما عادت حكراً على أحاديث الصالونات، لا تبدأ بالموارد ولا تنتهي مع تعدد الطامحين، فمنذ أحداث 7 أيار 2008 وما أعقبها من تسويات ومحطات واستحقاقات، وميزان القوى الداخلي منكسر بصورة واضحة في كل المواقع والمؤسسات، وكل ذلك فتح المجال لظهور حالات فردية هشّة وسطحية طمحت للعب دور في المجال السني، متسلحة بترداد متلازمات مذهبية أو سرد وقائع الظلم والتهميش، غالباً ما آلت إلى نهايات زادت من الإحباط، لكن الواقع أن كل ذلك كشف فراغاً على مستوى القيادة لطائفة كبيرة ومؤسّسة، ولا يليق بها إلا الدور الذي تستحقه واستحقته منذ تأسيس الكيان.. لقد التهمت القوى التي ورثت الوصاية السورية كل الامتيازات، ومواقع التأثير، وتُرك لسُنة لبنان: السكوت على الواقع القائم المختل، أو الاتهام بالداعشية!! وما بين هذا وذاك مشجب التشكيك والملاحقة قائم!
في الحديث عن توازنات الواقع اللبناني ومع الانخراط العميق في الأزمة السورية، بما عناه ويعنيه من دلالات، يبرز السؤال بشكل متزايد عن مصير اتفاق الطائف، فبالتزامن مع اعادة تشكيل أجزاء من الاقليم، يبدو لبنان (حيث الطبقة السياسية أعجز من أن تحل أزمة النفايات) مقبلٌ على إفلاس سياسي ودستوري كبير، قد يؤدي الى انهيار الصيغة القائمة والدخول في المجهول. نحن محتاجون إلى لمّ الشمل ضمن الثوابت التاريخية والوطنية التي تؤكد على العيش الوطني الواحد وأساسه الشراكة الكاملة على أساس المناصفة في التمثيل السياسي، والمشاركة في بناء المؤسسات، وعماد هذه المشاركة التمثيل الصحيح لكل الفئات، والتمثيل الوازن بداخل الطوائف. ولكي يظل التوازن في النظام السياسي قائماً ينبغي العمل على معالجة أي إحساس بالغبن أو بالإقصاء لأن ذلك يولد انعزالا وتطرفاً وخروجاً على مقتضيات العيش والميثاق. في الذكرى الحادية عشر، يبقى الأمل كبير، ويبقى إرث رفيق الحريري الوطني والإسلامي والعربي منارة للأجيال في بناء وطنية ملتزمة، ونجاح ملهم، وقيادة نيّرة.
لبنان 24