من نافذة ميونيخ إلى «باب السلامة» على الحدود السورية- التركية، كم بقي من الوقت لدى الكرملين ليعلن، أن الظروف باتت مهيأة لفرض التفاوض بالقوة على المعارضين للنظام؟
ماذا تبدّل بعد تجميد محادثات جنيف التمهيدية، بسبب إصرار النظام على تحجيم وفد الهيئة العليا للتفاوض؟ لا رواية الكرملين تبدّلت حول دقة طائراته الحربية في اصطياد «الإرهابيين»، ولا مطالبته بأدلة على استهداف مدنيين، ولا موجات القصف العشوائي التي نشرت ذُعراً دفع موجات جديدة من النازحين إلى الحدود السورية- التركية.
صحيح أن معنويات النظام السوري يرمّمها قيصر الكرملين بالقوة، فيما يحطِّم معنويات الفصائل المقاتلة، لكن الأكيد أن موسكو وجيشها ولو احتلا سورية بالكامل، يساندهما حلفاء النظام، لن يتمكّنا من فرض تسوية سياسية بالتوابيت والنعوش. وما بات بديهياً هو أن احداً من قادة المعارضة أو فصائلها، بعد سقوط أكثر من 260 ألف قتيل وتدمير عشرات المدن ومئات البلدات، لن يجرؤ على توقيع صك استسلام لنظام اتهمته الأمم المتحدة بارتكاب جرائم إبادة، ويظن أنه يستعيد شرعية بات بعض الغرب لا يمانع في التعامل معها.
الذي تبدّل بعد محطة جنيف المتعثّرة، هو تقرير محقّقي الأمم المتحدة عن دولة السجون وإخفاء البشر قسراً، وتغييبهم من الحياة، وتأكيدهم أن ممارسات النظام تفوق ما يرتكبه «داعش» و «جبهة النصرة». ومطالبة اللجنة الدولية المعنية بالتحقيق، باللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق المنظمة، لوقف جرائم «الإبادة»، هي عملياً رسالة إلى الكرملين بأنه يخوض حرباً دفاعاً عن هذه الإبادة.
وبافتراض صمت الروس أمام نتائج التحقيق، واستكمالهم خطة الغارات المكثّفة، لمحاصرة الفصائل المقاتلة في حلب، فالحال أن النظام لم يعد يقوى على حرب استنزاف طويلة، بعد 5 سنوات من الصراع. يعقّد ذلك مهمة موسكو التي لن تجد في كل الأحوال تجاوباً من المعارضة، غير تلك التي تسبح في فلك النظام، يتيح لها القول إنها ستقطف ثمار تدخُّلها العسكري، بتسوية سياسية تنقذ النظام، وتمدّد عمره.
صحيح أن روسيا ما زالت تسجّل نقاطاً بأثمان دموية مرتفعة، وتشدّد الضغوط على تركيا والحملة النفسية على رئيسها رجب طيب أردوغان الذي اتهمته بالسخافة، لتحذيره من خطة «دويلة علوية»، لكن الصحيح أيضاً، أن موسكو باتت عملياً في موقع العاجز عن الحسم العسكري، إلا إذا اختارت بدء مواجهات برية... هذه هي اللحظة التي باتت فصائل معارضة تراهن عليها، مستعيدة تجربة دحر السوفيات في المستنقع الأفغاني.
ما تبدّل أو طرأ بعد تعثُّر جنيف، قد يكون محاولة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، اختبار جدية الولايات المتحدة في الحرب على «داعش» لاستئصاله في سورية، عبر طرح المساهمة بقوات برية ضمن جهود التحالف الدولي، وبقيادة أميركية... أليس هدف الروس أيضاً كما يردّدون ليل نهار، هو ضرب الإرهاب؟ وحتى في بريطانيا وفرنسا، يسود تشكيك بقدرة الضربات الجوية على حسم المعركة مع «داعش»، بالتالي كلما طالت الحملة الروسية زاد الضحايا السوريون، وزاد الخراب ومدن الموت والحصار والجوع، ووحده «داعش» يكسب، وما بقي من النظام.
والسؤال ليس عن سبب تحدي «الحرس الثوري» الإيراني السعودية أن تُرسل قوات خاصة برية الى سورية لمواجهة «داعش»، ما دام «الحرس» يعتبر الحرب هناك «شأناً داخلياً إيرانياً» على الأراضي السورية (!) بل إن السؤال لا بد أن يتمحور حول ظاهرة ميل الإيرانيين علناً وبجرأة، إلى بثٍّ لمشاهد شبه يومية عن تشييعٍ لضباط كبار من قادة «الحرس» سقطوا خلال معارك الدفاع عن نظام الأسد... هكذا ترسِّخ طهران دورها في «التسوية»، فيما لا تزال واشنطن تتكتّم على «أفكار» روسية لوقف النار في سورية يُفترض أن تُطرح في ميونيخ، خلال اجتماع مجموعة الدعم الدولية لسورية غداً. ولكن ألم يُنقل عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قوله في جنيف إن لا بدّ للمعارضين للأسد من التفاوض تحت القصف؟
لا شيء تبدَّل عملياً منذ تعثُّر جنيف، وصعود معنويات النظام في دمشق، منتفخة بالضربات الروسية الشمشونية. لا شيء تبدَّل سوى مزيد من الوعود الأميركية، موجات القتل قريبة من «باب السلامة» وقوات الأسد تقترب من حصار حلب بغطاء جوي روسي. مليون سوري تحت الحصار، بانتظار عملية سلام يُرجَّح ألاّ تأتي، لأن النظام وعرّابه بوتين يراهنان بكل بساطة على الحسم العسكري، وعلى بقاء إدارة أوباما رهينة للتردُّد والعجز.
كل ما وعدت به الديبلوماسية الأميركية، هو جهود لوقف النار في سورية... كل ما توحي به السياسة الروسية هو رهان أكيد على سحق كل من يرفع السلاح ضد النظام، ولو كان عدوّاً لـ «داعش». فكيف يقبل العرّاب بالتنازل عن دوره للتحالف الدولي ضد التنظيم؟ سحق «داعش» لا يخدم استراتيجية الكرملين.