من المتفق عليه في الولايات المتحدة أن "الاتفاق النووي" مع إيران من الناحية التقنية يؤجِّل المشروع النووي الإيراني خمسة عشر أو حتى عشرين عاما. واحدٌ من أفضل الأجوبة التي قُدِّمتْ في الدفاع عن الاتفاق كان ما كتبه في "النيويورك تايمز" وليم بيرنز النائب السابق لوزير الخارجية.
كتب بيرنز الذي أشرف على جزء مهم من المحادثات الديبلوماسية التي جرت في عُمان عام 2014 والتي قيل أن فيها جرى رسم تفاهمات استراتيجية جعلت الاتفاق ممكناً: "لا نستطيع قصف المعرفة" ويقصد بالقنابل.
أراد بيرنز أن يقول أن أقصى ما يمكن فعله هو الاتفاق على ترتيبات تجعل إيران توقف مشروعها النووي العسكري عبر ترتيبات صارمة تضمن التنفيذ لسنوات طويلة إلى الأمام ولكنْ هناك جيل إيراني بات يمتلك المعرفة النووية وهذا ما لا يمكن القضاء عليه عسكريا.
وليم بيرنز أصبح بعد تقاعده العام الماضي من الوزارة رئيسا لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي وهي مؤسسة الأبحاث الشهيرة كما أن زميلته المفاوضة البارزة الأخرى في الاتفاق النووي، ويندي شيرمن، نائبة وزير الخارجية المتقاعدة مؤخراً من الوزارة أعلنت شركةُ "ألبرايت ستونبريدج غروب" العاملة في مجال الاستشارات المالية والصناعية تعيينها مستشارة رئيسية فيها. وهذه الشركة أسستها وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت.
أهم ما يسمعه المشاهد لتسجيل كامل على "يوتيوب" لجلسة تقييم مسار الاتفاق النووي الأميركي الإيراني عقدها الشيوخ الديموقراطيون في الكونغرس الأميركي في التاسع والعشرين من كانون الثاني المنصرم، أي منذ أقل من أسبوعين... أهم ما يسمعه هو خبرٌ عن إسرائيل وليس عن إيران!
فالسيناتور عن ولاية فرجينيا Tim Kain قال، ما مفاده أنه عاد من زيارة لإسرائيل مؤخراً وأنه لاحظ حصول تغيير ملموس في أوساط النخبة الإسرائيلية هو الاعتراف بأن الاتفاق النووي خفّض الخطر الإيراني على الدولة العبرية.
هذا الانطباع، رغم استمرار مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وطاقمه الناقد للاتفاق ولكن ليس بتعبئة إعلامية كالسابق، يشكِّل فعلا بدايةَ تحوّلٍ واقعي ما في الدولة الأكثر اعتراضا على الاتفاق، فكرةً ثم توقيعاً. ( هكذا هي إسرائيل "المدلَّلَة": الأكثر استفادة والأكثر اعتراضاً).
هذا التوقيع الأميركي لا يزال بعض رموز اللوبي الإسرائيلي يأملون أن بإمكان الرئيس الأميركي المقبل، لو شاء، أن يعتبر نفسه غير ملزَمٍ به وبالتالي يتراجع عنه كما قال لصحيفة "الجيروزالم بوست" الإسرائيلية مالكوم هوِنلين نائب الرئيس التنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات الأميركية اليهودية الرئيسية وحجته في ذلك أن هذا الاتفاق الذي "مرّ بمناورة برلمانية" لا يُعتَبر كمعاهدة ولم يُوَقَّع على هذا الأساس.
طبعا هذا رأي يخالفه الكثير من المحللين والسياسيّين الأميركيين الذين يرون أن ذلك لن يكون ممكنا من الناحية الواقعية لأنه بعد عام من الآن سيدخل الاتفاق في مراحل تنفيذية متقدمة فماذا ستقول واشنطن عندها للدول الخمس الأخرى التي وقَّعَتْ على الاتفاق بعد أن تكون عقود هذه الدول واتفاقاتها المالية والتجارية والاستثمارية مع إيران قد أصبحت نافذة. فهل ستتمكن واشنطن من استصدار موقف ضد إيران في مجلس الأمن في هذه الحالة؟ لذلك الرأي الواقعي أن العودة الأميركية عن الاتفاق لم تعد واردة وإن كان الحد الأقصى للسيناريوهات السلبية هو تبطيء مسار العلاقات الأميركية الإيرانية.
جلسة الشيوخ الديموقراطيين سيطر عليها، ليس نقد الاتفاق، وإنما الدعوة إلى استنفار علمي وإجرائي لجعل مراقبة تنفيذ إيران لتعهداتها في الاتفاق مُحْكَمَة وغير قابلة للخطأ.
من الملاحظات الأخرى على النقاش الداخلي الأميركي أن المناظرات التي تدور بين المرشحين للرئاسة، كما يُلاحَظ، لا كثافة حضور فيها للموضوع الإسرائيلي، الموضوع المستحيل طبعا أن يغيب.
الآن الكلام الجدي في أوساط المعلِّقين والباحثين الأميركيين هو رصد آثار رفع العقوبات المتواصل عن إيران على كل المستويات من أسعار النفط التي يتوقّع العديدون ومنهم المحلل المعروف أنطوني كوردسمان استمرارها منخفضة في دراسة صادرة مؤخراً عن مركز الدراسات الاستراتيجّة والدوليّة ( csis) إلى الأوضاع الأمنية والسياسية في المنطقة إلى مستقبل الوضع الداخلي الإيراني.
حتى هيلاري كلينتون في أحد اللقاءات الصحافية عندما قيل لها أنها خلال عملها كوزيرة خارجية اعتبرت توقّعَ أي تقارب أميركي مع إيران توقّعاً غير واقعي، أجابت بأن المطروح الآن وضع جديد ولْننظُر إلى المستقبل. وهي من الأصوات المعوّل عليها من معارضي الاتفاق النووي وأصدقائهم لكبح نتائجه.
العام المنصرم وكانت الولايات المتحدة قد توصلت إلى تفاهم أولي معلن مع إيران، قبل أن توقِّع اتفاق فيينا والتزمت بموجبه حتى حزيران ( الفائت) إعادة ما يعادل 450 مليون دولار من الأموال، غير الأسهم، وتقديرها جميعا يومها كان لا يتجاوز المليار دولار شهريا... الأمر الذي جعل نائبا جمهوريا كان معارضا للاتفاق... يصرِّح متهكِّماً على ومحرِّضاً ضد الاتفاق: "واشنطن باتت تدفع شهريا ما يعادل عشر سنوات من موازنة نفقات "حزب الله" في لبنان".
بلغت الأموال العائدة إلى إيران منذ الشهر المنصرم أكثر من ثلاثين مليار دولار! بعدما انتقل الاتفاق من مرحلة "المشهِّيات" المالية الأولية إلى مرحلة "الأطباق" الكبيرة على مائدة الطعام... والآن بدأ وقت التمييز، أحيانا الصعب، بين القضايا العضوية والقضايا الهامشية... من منظور صانعي هذا التغيير. فالأموال العائدة والتي ستعود لا تجدد فقط "شباب" العلاقة التمويلية بين " حزب الله" وإيران بل أكبر من ذلك... بين إيران والنظام السوري.
ومن أولى بانتظار صدور كتابه عن المفاوضات التي صنعت ما أصبح "أكبر إرث لأوباما" في السياسة الخارجية: وليم بيرنز أم ويندي شيرمن المنتقلان إلى "القطاع الخاص" مع كل خبراتهما؟