تقف إيران على أعتاب استحقاقَيْن مهمَّين خلال الشهر الحالي: انتخابات «مجلس الخبراء» وانتخابات البرلمان، اللتان تُجرَيان في يوم واحد هو السادس والعشرين من شباط 2016. ستؤثر النتيجة بعمق على مستقبل إيران خلال العقد المقبل، لأنها ستقرَّر صورة النظام السياسي الإيراني وتوازناته المرتَقَبة. من المحتمل أن يختار «مجلس الخبراء» المقبل أثناء فترة ولايته البالغة ثماني سنوات خليفة للمرشد الحالي السيد علي خامنئي (76 عاماً)، أما في انتخابات البرلمان فيدور الصراع الفعلي على فرص روحاني في ترجمة نجاحاته النووية والتفاوضية إلى كتلة معتبرة داخل البرلمان. لم تعد إيران كما كانت قبل عام واحد فقط، إذ إن إبرام الاتفاق النووي وضعها أمام تحديات من نوع جديد داخلياً وخارجياً. وتعني عودة إيران إلى المجتمع الدولي المترتبة على ذلك الاتفاق فتح أبواب الفرص والأخطار في آنٍ معاً، ما يجعل مستقبل إيران مرتهناً إلى حد كبير بمجموعة السياسات التي ستنتهج داخلياً وخارجياً، والاستحقاق الانتخابي الراهن يُعدّ من أهم المؤشرات على اتجاهاتها العامة. ولئن كانت هناك مستويات عدة للصراعات الانتخابية: شخصياً وتكتيكياً ومناطقياً إلى غير ذلك من أوجه التقاسيم، إلا أن أعلى مستويات الصراع تبقى معقودة تحليلياً عند القيم التي تتبناها الأطراف المتنافسة. ببعض التعميم، يمكن تعيين طرفَي المبارزة القيمية/ الانتخابية الجارية الآن في إيران على تعدد الجبهات والقوائم الانتخابية كالتالي: «النموذج الصيني» الذي يقترب منه مرشد الجمهورية والمؤسسات الدائرة في فلكه، في مواجهة الليبرالية الاقتصادية التي يفضلها روحاني والإصلاحيون والوسطيون.
إيران و «النموذج الصيني»
يشير مصطلح «النموذج الصيني» إلى السياسات الاقتصادية التي تبنتها الصين بعد وفاة ماوتسي تونغ وإعادة الاعتبار إلى دينغ شياو بينغ عام 1976؛ والتي أدت إلى ارتفاع معدلات النمو الصينية إلى مستويات قياسية ومعها اتسع حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني بشدة خلال العقود السابقة. وكان أن اكتسب «النموذج الصيني» جاذبية إضافية في العالم الثالث بعد فترة الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم الغربي عامي 2008 و2009، باعتباره بديلاً جذاباً في مواجهة الليبرالية الاقتصادية. وتُعدّ الخصائص التالية من أبرز ما يميز «النموذج الصيني»: الاعتماد على دور قوي للدولة في توجيه الاقتصاد والمجتمع، غياب الليبرالية السياسية، دور قيادي قوي للحزب الحاكم، وليس آخراً انتقاء مجموعة مختارة بعناية من القيم الأجنبية وتحييد الأخرى. عند مقايسة الخصائص المذكورة نجد أن تفضيلات المرشد الإيراني والمؤسسات الدائرة في فلكه تقترب منها في نقاط متعددة، فالدولة ومؤسساتها قبل رفع العقوبات لعبتا دوراً كبيراً في حياة إيران الاقتصادية، واستمرار ذلك الدور بعد رفع العقوبات يناسب هذا الفريق سياسياً أيضاً نظراً للارتباط المعلوم بين السلطتين السياسية والاقتصادية. لم تكن الليبرالية السياسية يوماً سمة من سمات جمهورية إيران الإسلامية، إذ إن مبدأ «ولاية الفقيه» الحاكم بالمطلق في إيران يناظر هيمنة الحزب الشيوعي على السلطة في الصين، ما يخلق موضوعياً مشتركاً شمولياً ما بين البلدين. إيران ليست الديمقراطية الأفضل، ولا الاقتصاد الأكثر تطوراً في المنطقة، ولكن إيران تتصدّر دول المنطقة مع ذلك في مضمار الاستقلال الوطني تجاه القوى الكبرى.
تحذو إيران بقيادة المرشد السيد علي خامنئي حذو الاستراتيجية الصينية مع فارق الزمان والمكان والقدرة والظروف المجتمعية؛ فالصين في مواجهة ركودها الاقتصادي منتصَف سبعينيات القرن الماضي وصعود أميركا واليابان إلى رأس هرم السلطة الاقتصادية في العالم تبنّت رأسمالية الدولة لإنقاذ هيمنة حزبها الشيوعي الحاكم، وليس الانفتاح السياسي الكامل داخلياً وخارجياً وما يحمله من تحدٍ لا راد له لهياكل سلطتها الحاكمة. على المنوال ذاته، ستحاول إيران بقيادة المرشد، بعد رفع العقوبات عنها واندماجها في المجتمع الدولي، الاستمرار بتراتبية الهيمنة ذاتها في نظامها السياسي الحالي مع إدخال أقل قدر ممكن من التغيير عليه. بمعنى آخر، يفضل المرشد والمؤسسات الدائرة في فلكه الانفتاح بحساب على العالم والاحتفاظ بدور قوي للدولة المُسَيطَر عليها للحفاظ على طبيعة السلطتين السياسية والاقتصادية القائمتين راهناً عبر منع التغلغل الغربي إلى مفاصل الاقتصاد، ومن ثم السياسة، وهو جوهر الرهان الأميركي على تغيير النظام الإيراني من الداخل بالشراكات الاقتصادية وليس بالطائرات والصواريخ (راجع مصطفى اللباد - السفير إيران وأميركا ورهانات المستقبل 13/7/2015).
إيران وليبرالية السوق
يبدو لافتاً أن التيار الإصلاحي في إيران قد تحوّل من راديكالية مفرطة في العداء لواشنطن إبان السنوات الأولى من الثورة الإيرانية، بملاحظة أن قادة الطلبة من محتلي السفارة الأميركية هم ذاتهم قادة التيار الإصلاحي حالياً، إلى راديكالية مفرطة في تبني الليبرالية الاقتصادية. وإذ يعوّل الإصلاحيون والوسطيون مثل الرئيس روحاني والشيخ رفسنجاني على الانفتاح على الغرب لتحسين حالة الاقتصاد الإيراني وجذب الاستثمارات إليه، وتلبية طموحات تلك الشرائح من الشباب الإيراني التواقة إلى التغيير، تبقى الولايات المتحدة الأميركية ـ وفقاً لتلك الرؤية - القوة القادرة على تسهيل تلك الطموحات سياسياً واقتصادياً وإقليمياً بحكم موقعها على قمة النظام الدولي الراهن. وإذ يعارض التيار الإصلاحي بحق أصولية المحافظين المتشددين في إيران وهيمنتهم على مؤسسات الدولة وما يتفرع عن تلك الهيمنة من تقييد للحريات المدنية والسياسية، إلا أنه يحبذ للمفارقة أصولية من نوع آخر هي «أصولية السوق» (الليبرالية الاقتصادية) ابتغاءً لتحقيق طموحاته السياسية.
تتميز الليبرالية الاقتصادية بالخصائص التالية: ترشيد السياسة المالية مع تجنّب عجوزات مالية كبيرة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، إعادة توجيه الإنفاق الحكومي لدعم السلع والخدمات لمصلحة التعليم الأساسي والصحة واستثمارات البنية التحتية، إصلاح النظام الضريبي واستخدام نسب ضريبية للتيسير على الأغنياء لدفعهم إلى المزيد من الاستثمار. كما يلعب سعر الفائدة التي يحدده البنك المركزي دوراً مركزياً في توجيه الاقتصاد، بالتوازي مع الحفاظ على سعر صرف تنافسي للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وتحرير التجارة الخارجية عبر رفع الحواجز الجمركية والحمائية، فضلاً عن تسهيل الاستثمار الأجنبي عبر تقديم المزايا والضمانات، معطوفة على خصخصة المنشآت المملوكة للدولة لتشجيع القطاع الخاص الأجنبي والمحلي، وليس آخراً توفير ضمانات قانونية للملكية الخاصة. تعني هذه الروشتة انفتاحاً هيكلياً قد يدفع الاقتصادات المعنية في بعض الأحوال إلى تحقيق نسب عالية من النمو في المراحل الأولى لتطبيقه وجذب استثمارات أجنبية ضخمة ضرورية لإيران في هذه المرحلة، بسبب حاجتها إلى الاستثمارات من ناحية، ورغبتها في بلورة قدراتها الاقتصادية الكامنة من ناحية أخرى. من ناحيته، لم يُخف الرئيس الإيراني حسن روحاني انحيازاته عند تشكيل أول حكومة له بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2013، فاحتل الحقائب الاقتصادية فيها وزراء ممن يفضلون الليبرالية الاقتصادية وتلقوا علومهم في الجامعات الغربية والأميركية تحديداً. (راجع مصطفى اللباد - السفير: حكومة روحاني الجديدة تكشف انحيازاتها مبكراً 12/8/2013). كانت تلك إشارة إيرانية مهمة للغرب عموماً ولواشنطن، خصوصاً في رغبة طهران بالانفتاح الاقتصادي، لدفعه إلى إبرام اتفاق حول البرنامج النووي، إلا أن تلك الإشارة لا تخطئ مع ذلك التوجه الليبرالي في الاقتصاد الذي يتبناه الرئيس الإيراني حسن روحاني منذ يومه الأول في السلطة. يتوسل الإصلاحيون بالليبرالية الاقتصادية لتغيير تركيبة السلطة السياسية في إيران لمصلحتهم، لأن فتح الأسواق وتحرير التجارة الخارجية سيعدل جذرياً موازين القوى داخل المجتمع الإيراني على المديين المتوسط والطويل. ويُضاف إلى ذلك الاعتبار أيضاً أن الهيمنة الهيكلية للمحافظين على مؤسسات الدولة الإيرانية عبر أدوات مختلفة ليس أقلها «مجلس صيانة الدستور»، الذي يمكنه استبعاد المرشحين يلعب دوراً حاسماً في توجيه نتائج الانتخابات - وهو ما حصل بالفعل خلال الأسابيع الماضية-، تجعل الاتكال على آلية صناديق الاقتراع بشكلها الحالي قاصرة عن بلوغ التغيير الإصلاحي المنشود في موازين القوى السلطوية.
الخلاصة
يدور الصراع الانتخابي الراهن جوهرياً على تسييد نموذج تنموي ـ سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي ليختم مصير إيران خلال السنوات المقبلة: الاقتراب من «النموذج الصيني» الذي يفضّله المرشد والمؤسسات الدائرة في فلكه، في مواجهة الليبرالية الاقتصادية التي تتبنّاها حكومة روحاني والتيار الإصلاحي. تتمحور نقطة القوة عند المرشد والمؤسسات الدائرة في فلكه على قيمة الاستقلال الوطني في مواجهة القوى الكبرى، أما نقطة الضعف فتتمثل في نقص الحريات المدنية والسياسية. بالمقابل يبدو العكس صحيحاً عند تحالف روحاني - رفسنجاني - الإصلاحيين، حيث نقاط القوة هي طلب الإصلاح السياسي والحريات المدنية والانفتاح على العالم، في حين يتموضع «كعب أخيل» في ما سيترتب على الليبرالية الاقتصادية من تأثير لاحق على استقلال إيران الوطني. وفقاً لذلك المقتضى، لا يبدو الاستحقاق الانتخابي المقبل في إيران توزيعاً للأدوار، وإنما مكاسرة بين جناحَيْ النظام حول أولويات المستقبل. بدون استيعاب هذه الخلفية التأسيسية، سيبدو الاستحقاق الانتخابي المقبل في إيران على أهميته الفائقة روتينياً وتكتيكياً وشعاراتياً ومشخصناً فقط، والأمر ليس كذلك على أية حال.