يعيش اللبنانيون منذ مايو/ أيار 2014 بلا رئيس للجمهورية، أي بلا "رئيس للدولة ورمز وحدة الوطن"، بحسب ما ينصّ الدستور اللبناني (1926). ربما هي عقدة الرقم 13 والشؤم الذي يحمله، ما يقف وراء تمديد الشغور من شهر إلى آخر، ويمنع انتخاب الرئيس الثالث عشر للجمهورية، منذ إعلان استقلال لبنان (1943). لو لم يكن التاريخ اللبناني حافلاً بأزماته الرئاسية، ومعقداً في تركيبته الطائفية والمذهبية، وأرضاً خصبة للأزمات، لكان في الوسع الاكتفاء باللعنة والنحس، لتحميلهما مسؤولية ما يحصل على الأراضي اللبنانية منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق، ميشال سليمان في مايو/ أيار 2014. لكن الشغور المتواصل اليوم هو نتيجة بديهية لما يعتبره رئيس مجلس النواب السابق، حسين الحسيني، "تحكم قوى الأمر الواقع الذين كانوا أيام الحرب، أي المليشيات، بالسلطة واستيلاءهم عليها".
يقول الحسيني لـ "العربي الجديد" إنّ كل من في السلطة اليوم، وكل زعماء الحرب الأهلية، "يستولون على السلطة، خلافاً لإرادة الشعب، ويشترطون مجيء رئيس مكبّل، لكيلا يتمكّن من تطبيق الدستور". فتطبيق النصوص القانونية ووثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف الذي أقره اللقاء النيابي في السعودية عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية) يعني، بشكل أو بآخر، قطع يد زعماء الحرب، وتحول الدولة اللبنانية من واقع حكم الأفراد إلى حكم المؤسسات، بحسب ما يقول الحسيني. لم ترد عبارة "الشغور الرئاسي" في القاموس اللبناني سوى ثلاث مرات، فظاهرة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية لم تظهر، أولاً، سوى مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل عام 1988، وانقسام السلطة بين حكومة العهد التي باتت في حكم المستقيلة والحكومة العسكرية التي شكّلها قائد الجيش وقتها، ميشال عون، بتكليف من الجميّل. انتهى الشغور مع التدخل العسكري السوري عام 1990، الذي جاء ليكرّس اتفاق الطائف، ويضع السلطة بيد الجيش السوري وحكّامه. فانتخب الرئيس إلياس الهراوي لست سنوات، وتم التمديد له ثلاث سنوات إضافية، حتى عام 1998. ثم جاء الشغور الثاني بعد الأزمة السياسية بالتمديد لولاية الرئيس إميل لحود، في نهاية عهد ما يسميها لبنانيون عديدون حقبة "الوصاية السورية على لبنان". وتمّ التمديد للحود عام 2004 بطلب من النظام السوري، فانفجرت الأزمة، وجاء معها اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، ليرحل بعدها الجيش السوري عن لبنان. أما الشغور الثالث، فهو ما نعيشه اليوم منذ نحو عامين، من دون وجود أفق جدّي لإنهاء الفراغ الرئاسي.
قد يكون الصراع بين فريقي 8 آذار، الحليف للنظامين السوري والإيراني (بزعامة حزب الله ورئيس مجلس النواب نبيه بري) و14 آذار (بزعامة تيار المستقبل) سبباً بديهياً للعرقلة الحاصلة لانتخاب رئيس للجمهورية. عطّل حزب الله، ومعه حليفه المسيحي القوي رئيس تكتل التغيير والإصلاح، النائب ميشال عون، جلسات انتخاب الرئيس منذ منتصف مايو/ أيار 2014. فمرّت 34 جلسة لانتخاب الرئيس، من دون التمكّن من تأمين النصاب القانونية. وتفعل الحوارات الثنائية والعامة فعلها اليوم في محاولة لعقد اتفاقاتٍ وتفاهماتٍ سياسيةٍ بين المكوّنات الأساسية علّها تنجح في تعميم صيغة رئاسية ما تنقذ الموقع المسيحي الأول من الشغور القائم.
وإذا كان العمل جارياً على تفعيل الجهود الداخلية، فإنّ جهوداً خارجية يتم بذلها أيضاً. من الحركة السابقة لمبعوث وزير الخارجية الفرنسية، جان فرنسوا جيرو، ونشاط السفارة الأميركية في لبنان، إضافة إلى المعلومات المتداولة عن طرح الشغور الرئاسي في اللقاء الذي جمع البابا فرنسيس بالرئيس الإيراني حسن روحاني. كما لا يخلو أي بيان صادر عن زعماء العالم حيال لبنان، بالتأكيد على وجوب وضع حد للشغور وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ومن البديهي القول إنّ معسكري 8 آذار و14 آذار يعرقلان الانتخابات، وفقاً للحسابات القائمة على المستوى الإقليمي، وانسجاماً مع مصالح الرعاة الإقليميين في السعودية أو في ايران. يتمثّل الرهان اللبناني، اليوم، على أن تكون الساحة اللبنانية، في نظر المتصارعين الإقليميين والدوليين، مدخلاً للحلّ العام في المنطقة، وليس جزءاً من الصراع. سبق وأن عاش اللبنانيون مرحلة مشابهة مع انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، ويقول المعنيون في تلك الحقبة، ومنهم حسين الحسيني، إنّ "الاتفاق على السلم في لبنان تمّ كمدخل لحلحلة الأمور في المنطقة، بعد صراعات إقليمية كبرى في العراق وإيران وفي فلسطين، لكن المفاجأة كانت في تراجع الرعاة الدوليين عن خيار كون لبنان مدخلاً لحل أزمة المنطقة، والعمل على إيجاد حل عام لأزمة المنطقة ومنها لبنان". وفي تلك المرحلة، تراجعت كل الآمال المعلّقة على اتفاق الطائف والإصلاحات الدستورية والمؤسساتية والوطنية التي تمّ إقرارها، ودخل لبنان في مرحلة الوصاية السورية على قراره الرسمي، مع وجود جيش النظام السوري في أراضيه.
ليست التبعية السياسية للخارج جديدة عن طواقم الحكم في لبنان. ومن الطبيعي أن يتأثر بلد صغير، متعدّد الانتماءات الطائفية والمذهبية والأهواء السياسية، بكمّ الأزمات المحيطة به، فيشهد التاريخ الوطني أزماتٍ سياسية عديدة متعلّقة بالمواقف الدولية وانقساماتها ونزاعاتها، وانعكاسها مباشرة على الرئاسة اللبنانية. بدءاً من الصراع العربي -الإسرائيلي، مروراً بالحقبة الناصرية، وقبلها الصراعات الخاصة بالهوية اللبنانية.
اختلاف الهويات اللبنانية
يقول مشرّعون لبنانيون إنّ الأزمة اللبنانية الأساسية كمنت في ثغرات تأسيس دولة لبنان منذ عام 1920. اختلف اللبنانيون على تحديد الهوية الوطنية، في ظل انقسامٍ ظلّ قائماً بين المكوّنات اللبنانية على توسيع حدود لبنان، أو تحجيمها، وعلى التعددية التي يتشّكل منها مجتمعه. فتمّ تجميع الأقضية الجغرافية (الخاضعة سابقاً لحكم السلطنة العثمانية) حول جبل لبنان، وأعلن عن تأسيس الكيان الجديد، لتنبت الأزمات المتلاحقة حول الهوية العربية أيضاً، والتي حسمها اللبنانيون، في تلك الفترة، بعبارة "لبنان ذو وجه عربي، لا يحكم من الشرق ولا من الغرب"، بحسب وثيقة تأسيس دولة لبنان الكبير. فكان أن اصطدم الواقع اللبناني في خمسينيات القرن الماضي بثورة 23 يوليو في مصر، والنهج الناصري في المنطقة، فكانت مثلاً الأزمة الرئاسية في عهد الرئيس كميل شمعون (1952-1958) والتي انتهت بحرب أهلية مصغّرة، نتيجة انضمامه إلى "حلف بغداد". فوضع فؤاد شهاب حداً لتلك الحرب، بعد أن تم انتخابه رئيساً للجمهورية، وحافظ على مسافة واضحة من الجميع في الداخل والخارج. ولعلّ أبرز سمات تلك الحقبة رفض شهاب زيارة "الجمهورية العربية الموحدة" للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، فتمّ نصب خيام على الحدود بين لبنان وسورية، وتم اللقاء في إحداها. واستمرت الأزمات السياسية، وتحديداً الرئاسية، في عهد الرئيس شارل حلو (1964-1970) الذي شهد انطلاق نشاط العمل الفدائي الفلسطيني، وصولاً إلى توقيع "اتفاق القاهرة". واستمرّت الأزمة أيضاً على مستوى الرئاسة في ولاية الرئيس سليمان فرنجية (1970-1976)، حيث وقعت الحرب الأهلية اللبنانية، وتدخل بعدها الجيش السوري ليفرض الرئيس إلياس سركيس رئيساً ولاية كاملة بين أعوام 1976 و1982.
الدولة مستمرة بلا رئيس
طوال الحرب الأهلية اللبنانية، وما سبقها من أزمات جدية، لم يشغر موقع رئاسة الجمهورية. منذ عام الاستقلال 1943 وحتى 1988، حافظ اللبنانيون على تاريخ 23 سبتمبر/ أيلول موعداً لانتخاب رئيس كل ست سنوات. يدفع هذا الواقع إلى القول إنّ اللبنانيين، ورعاتهم الخارجيين، كانوا يصرّون على المحافظة على شكل الدولة ومؤسساتها، حتى في أزمنة المحاور العسكرية والصراعات المسلحة، وهو ما لم يعد موجوداً اليوم في زمن السلم. وينبع هذا الحرص السابق على الرئاسة من أنّ موقع رئاسة الجمهورية كان العمود الأساسي للدولة. ومع اتفاق الطائف، وبعد تعديل الصلاحيات، لم تعد الأمور الإجرائية والتنفيذية محصورة برئيس البلاد فقط، بل تمّ منح السلطة التنفيذية جزءاً أساسياً من الصلاحيات. بحيث بات بإمكان الجمهورية أن تستمر في الحياة بدون رئيس، تماماً كما هو حاصل اليوم. وقد يكون هذا من أسباب تمادي القوى السياسية، ورعاتها الخارجيين أيضاً، في إسقاط الجلسات الانتخابية والاستمرار في الرئاسة الشاغرة من دون ضغوط فعلية تهدّد الدولة والنظام.
ضعف الموقع من ضعف الطائفة
ويقول تاريخ لبنان، أيضاً، إنّ أيَ طرف لم يتمكن من الحكم بشكل فردي. حاول الرئيس الأول، بشارة الخوري، ذلك من خلال التجديد لنفسه فسقط. كما كانت حرب أهلية مصغّرة نتيجة تمرّد الرئيس كميل شمعون على باقي المكوّنات اللبنانية. تكرّ السبحة، قبل الحرب الأهلية وبعدها، لتشير إلى أنّ موقع رئاسة الجمهورية في لبنان بات موقعاً وسطياً وحكماً بين القوى المتصارعة في الحكومة وفي المجلس النيابي. هكذا كانت التجربة الأخيرة مع الرئيس ميشال سليمان الذي ما أن قرّر المواجهة، حتى كاد يُعزل في قصره، نتيجة صدامه مع حزب الله. وواجه الرئيس الأسبق، إميل لحود، سياسة العزل نفسها من فريق 14 آذار. فيصبح رئيس الدولة بلا أيد سياسية، ولا قدرة له على الحركة، وهذا هو الواقع الراهن منذ عام 2005.
وقد تكون أزمة رئاسة الجمهورية اليوم من أزمة الطائفة المسيحية، على اعتبار أنّ الدستور منح الموارنة رئاسة الجمهورية، مقابل رئاسة مجلس الوزراء للسنة ورئاسة المجلس النيابي للشيعة. في عهد ما بعد الطائف، شكّلت مرحلة "الوصاية السورية" على لبنان ضربة لا لبس فيها للقوى المسيحية. نفي الزعيم المسيحي الأول، قائد الجيش وقتها، ميشال عون، إلى الخارج. ووضع قائد حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في السجن. تم تفكيك الساحة المسيحية من أي معارضة محتملة للوجود السوري وإدارته للنظام اللبناني. وجاء ذلك في سياق تعديل الصلاحيات، فلم يعد للمسيحيين الكثير في البلد، سوى شخصيات مستقلة خاضعة، بشكل أو بآخر، للوصاية. وعملية إعادة بناء القوة المسيحية اليوم تمرّ بمراحلها الصعبة، أولاً من خلال التوافق الذي تمّ بين عون وجعجع، وهما عدوّان تاريخيان على الساحة المسيحية في الحرب والسياسية، ومن ثم من خلال تمكّن المكوّن المسيحي من فرض قانون انتخابي، يعيد مبدأ المناصفة (بين المسيحيين والمسلمين الذي أقرّه الدستور) إلى التمثيل النيابي. ويقول هذا الواقع إنّ الجمهورية مستمرة بلا رئيس، فما الضير إذاً من استمرار الكباش الحاصل بين كل القوى، الداخلية والخارجية، على موقع رئاسة الجمهورية، جائزة ترضية للفريق الفائز؟