لم يخرجوا في نزهة، او في رحلة إستكشاف، أو صيد. كانوا، بعشرات الالاف، يسيرون في جنازة غريبة، لا تتقدمها نعوش ولا رايات ولا أكاليل. تركوا الجثامين خلفهم وحثوا الخطى في مسيرة هجرة جديدة الى الشمال، لينضموا الى الملايين ممن سبقوهم في الفرار من الارض المحروقة، المنكوبة.
لولا بعض صرخات الاستغاثة التي اطلقت عند نقطة الحدود، لبدا ان الجنازة الصامتة هي جزء من طقوس خاصة يمارسها السوريون وحدهم. فالمشهد نفسه بات من العلامات الفارقة للاعوام الخمسة الماضية، وقد تكرر على جميع المعابر والمراكز الحدودية السورية.
لكن الصمت هذه المرة ازاء هذه الهجرة الجنائزية، كان معبراً أكثر من اي وقت مضى عن اللامبالاة من جهة، وعن التواطوء العام من جهة ثانية. لم يصدر بيان رسمي عربي او اسلامي واحد يدين ذلك المشهد اللانساني المروّع، ويناشد الروس التوقف عند هذا الحد. كاد البعض يقول ان السوريين ينجون،وهي رحمة، ولم يتورع آخرون عن طلب توجيه الشكر الى سلاح الجو الروسي الذي يقوم بعمل الخير والإحسان.
حصلت الجنازة الحاشدة على ترخيص رسمي. وحصل المشيعون على تصريح خروج،(بلا عودة).. ونالت روسيا تفويضاً عربياً وإسلامياً ودولياً لم يسبق له مثيل، بان تتابع حراثة الارض السورية وحرقها تمهيدا لتطهيرها.. ولمدة ستة أشهر مقبلة، على ما نُقل عن وزير الخارجية الاميركية جون كيري في كواليس مؤتمر جنيف الاخير. والسبب، حسب تعبيره، ان المعارضة السورية لم تلبِ الدعوة الى التفاوض، وغادرت المدينة السويسرية بلا إستئذان.
على الرغم من هذا التفويض الذي يحمل تواقيع غالبية عالمية ساحقة، ما زال الوهم السائد هو ان روسيا تكثف حملتها العسكرية وتوسع مدى انتشار النظام وجيشه وحلفائه فقط لانها تترقب وقفاً وشيكاً لاطلاق النار، وتمهد لجولة مفاوضات سورية قريبة تؤدي الي تسوية سياسية بين النظام الذي لا تثق به ولا برئيسه ولا بأفعاله، وبين المعارضة التي لا تكن لها التقدير ولا الاحترام لكنها لا تنكر وجودها.
قبل جنيف الثالث وبعده، قالت موسكو، وردد العالم كله من بعدها، كلاماً صريحاً عن ضرورة انهاء الثورة السورية والحاجة الى بقاء نظام الاسد.. لان الاولوية المطلقة هي لمحاربة داعش والنصرة. شرعت موسكو في تنفيذ هذه الفكرة الثابتة في برنامجها منذ اللحظة الاولى، لان رئيسها فلاديمير بوتين، كما تقول مصادر الكرملين، شعر بالحزن عندما شاهد ثلاث مرات متتالية، فيديو التعرض لمعمر القذافي بعد القبض عليه، وأدرك أنه لم يفعل شيئاً لإنقاذه، وهو الان لا يريد ان تتكرر التجربة الليبية بكامل تفاصيلها في سوريا.
كان جنيف الثالث أشبه بفخ نصب للمعارضة السورية التي أساءت التقدير في مغامرة الذهاب ثم في تشكيل الوفد ثم في الانسحاب، وها هي اليوم تنكشف أكثر من ذي قبل وتتعرض مع جمهورها، لحملة تصفية كاملة، لن يقوى حلفاؤها القلائل على وقفها، او على الحد من نتائجها الكارثية على المستوى السياسي او الانساني، لا سيما في ظل الهزل الرائج أخيراً، حول تدخل عسكري بري في سوريا. فموسكو لا تدع مجالا للشك في أن حملتها العسكرية ما زالت في بداياتها الاولى، ولم يحن بعد موعد قطف ثمارها السياسية. كما ان إيران لا تخادع أحداً حين تقول أنها ماضية قدماً في القتال مع النظام حتى النهاية، وأنها مستعدة لارسال المزيد من القوات وتقديم المزيد من الضحايا.
يكفي التأكد من ان ثلاثة جيوش كاملة، جيش النظام والجيش الروسي والحرس الايراني تقاتل اليوم بضراوة شديدة وحدات المعارضة السورية المشرذمة، والمعزولة، لكي تصبح الهجرة الجنائزية الاخيرة في اتجاه الحدود التركية مشهداً رحيماً.. يكسب داعش والنصرة زخماً استثنائياً ويجعلهما خيار السوريين وخلاصهم الوحيد، ويحيل سوريا كلها الى بؤرة صراع وجودي بين الخير المطلق والشر المطلق، على ما كانت أرض الرباط الاولى، افغانستان، في العقود الماضية.