الوجودُ الإسلامي في أمريكا قديم جديد،بدأ من العبودية،جاء بهم البريطانيون من أفريقيا واقتادوهم واستعبدوهم في أمريكا وعرضوهم للبيع والعمل،وكانوا يتكلَّمون اللغة العربية،وذابوا في المجتمع وبعد تحريرهم والثورة ساهموا واستفادوا من الثروة الصناعية وإعادة عمران أمريكا بعد حربها الأهلية،واشتدت الهجرةُ في زمن الاتحاد السوفياتي الذي ضايق على حرية المسلمين في ممارسة شعائرهم وعقيدتهم،فلجأوا إليها هرباً بدينهم،والقانون الأميركي في أواسط القرن العشرين سمح باستقبال المسلمين من العالم الإسلامي من ذوي الأدمغة والخبرات الفنية كالأطباء والمهندسين والأكاديميين لتوظيفهم في النهوض وبناء الولايات المتحدة الأميركية.وبدأ الإسلام يتكاثر في أمريكا بسبب الإنجاب والهجرة واعتناق الإسلام.
وأكثر المسلمين المهاجرين نخبويون جاؤوا للعلم والاستثمار ومن طبقات وسطية وبرجوازية،واستفادوا من القانون الذي ألغى العبودية والتمييز والعنصرية وأطلق الحرية في التعبير والمعتقد،وأكثرهم تقلَّدوا مناصب عليا في القطاع العام والخاص،والآن هناك نائبان مسلمان في الكونغرس ينتميان للحزب الديمقراطي،وكل جالية مسلمة لها مؤسساتها التربوية والاجتماعية والدينية لكي تنظِّمَ شؤونها،فتعدد جنسيات المسلمين لم يكن مانعاً من التواصل والتفاعل والتعاون بينهم،فهناك اتحاد للجاليات ولأئمة المساجد والمؤسسات الإسلامية بعناوينها المتنوعة وتخصصاتها التوجيهية.
ويبلغ عدد المسلمين حوالي عشرة مليون مسلم في كافة الولايات وبتزايد،وخمسة آلاف وخمسمائة مسجد ومؤسسة إسلامية بتخصصات متنوعة الأهداف،وهم قوة وحصانة للقضايا العربية والإسلامية العادلة.والجميل هنا أن غالبية المسلمين (المدني والمتدين) يغلب عليهم طابع الوسطية والاتِّزان في التدين،والمتطرف لا مكان له للعيش هنا لأسباب كثيرة وكذلك الفاشل.
فالأمن والحرية التي يتنعّم بها المسلمون هنا لن يجدوها في بلد المنشأ،حيث لكل واحد بوسعه بناء مسجد أو تأسيس منظمة دون تعقيدات المستندات،فيما بعض الدول العربية لا تسمح ببناء كنائس على أراضيها وهي نفسها يُسمح لها بناء المساجد في قارات الغرب المسيحي.
وقادة الجالية شخصيات رائدة في العمل الإداري والثقافي والتواصل الاجتماعي ،وأكثرية المسلمين من الطبقات الوسطى والثرية،ولهم حضورهم في كافة مؤسسات العامة والخاصة.وهم يواجهون موجات الكراهية عند الآخرين بالكثير من الصبر والحكمة والتريُّث والوعي الفكري،والآن بدأت مؤسسات إسلامية هنا بمخاطبة قاعدة قادة موجات الكراهية بالحوار الهادئ، للوصول إلى مفاهيم وقواسم مشتركة لتوضيح الواقع الإسلامي الأميركي على أساس المواطنة الصالحة.ولقد أخبرني أكثر رجال الدين المسلمين الذين التقيتُهم في بعض الولايات بأنّ واقع المسلمين في أمريكا أكثر من جيد وهم يمارسون شعائرَهم وعقيدتَهم بحرية واسعة،والقانون يكفل ذلك دون تمييز.فتجربة الجاليات المسلمة في أمريكا نماذج حضاري في التعاطي مع القضايا الكبرى في عقلنة الدفاع والمواجهة وينبغي أن تُعمم على باقي جاليات العالم الغربي ليستفيدوا من تجبرتها الناجحة والتي تتسم بالرؤيا والنضوج والبُعد الاستراتيجي.
وللأسف هناك أصوات شاذة من الشرق الأوسط تدعو ( الموت لأمريكا) (دولة كافرة وصليبية وعدوة ووو)ونسيت تلك الأصوات أنّ المسلمين جزءٌ بل ومكوِّنٌ أساسي في النسيج الأميركي.والمجتمع هنا خليط من شعوب ودول العالم أجمع،فحين تسبُّ الأميركي فيعني ذلك أنك تسب المسيحي والمسلم والمسالم وطوائف لم تسمع بها وهي لم تراك يوماً وانت لم تتأذّى منها بشيء،وهي لا تعرف حتى الان لماذا تكرهها وتحاربها وتلعنها على المنابر والساحات؟وعلى بعض الشعوب العربية أنْ تعلم أنَّ الشعب الأميركي ولاؤه لوطنه ولعَلَمِه ولأرضه ولمطالبه الحياتية فقط ،فالسياسة لا تعنيه،والأخبار يقرأها أو يسمعها تَرَفاً،ولا خلفية له عن السياسة الخارجية لبلاده،فأمريكا لها مطبخان،داخلي وخارجي،والمواطن يهمه مطبخه الداخله مأكلاً ومشرباً ومسكناً ورفاهية وأمنا وشؤوناً حياتية.
فمسلمو أمريكا بخير،وهم متعايشون مع شركائهم من المسيحيين واليهود والبوذيين والسيخ واللا دينيين وغيرهم من الطوائف والقوميات والعرقيات.فالمساجد التي زرتُها في واشنطن وغيرها من الولايات لم أجد مثلها في الوطن العربي من الترتيب والجمالية في التصميم.فأمريكا بالمقارنة مع الدول العربية والإسلامية هي جنَّتُهم على الأرض.
ونحمد الله على التفاهم الأخوي بين السنَّة والشيعة والاحترام المتبادل بينهم.
والجميل هنا عندما تحدث حادثة كراهية ضد المسلمين فتتداعى المكونات الدينية المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها بالوقوف مع المسلمين ضد الإساءة استنكاراً،وتراهم يتشاركون مع المسلمون الغدوات والعشوات في المناسبات.والمسلمون يعتبرون أنفسَهم مواطنين أميركيين أصليين وليسوا رعايا،وأنهم معنيون بتطوير وحماية الوطن،بل وشركاء في محاربة التطرف سواء صدر من المسلمين أو من غيرهم،لأنّ الأمن القومي عندهم خط أحمر.
وأود التذكير بأنَّ الكونغرس الأميركي يوجد فيه مئة موظف مسلم ومسلمة،وهناك قاعة مخصصة لصلاة الجمعة،وهناك رئيس رابطة الموظفين المسلمين في الكونغرس،والنساء المسلمات فيه محجبات من دون حرج او تضييق او مراقبة،فحرية التعبير عندهم مقدسة ومحروسة.وفي قلب العاصمة واشنطن D.Cهناك عشرات المساجد والمراكز الإسلامية الفاعلة،فهنا لا أحَدَ يسألك عن دينك،بل عن خبرتك وكفاءَتك ومهنتك،لأن أمريكا عالمٌ جديدٌ وفرصٌ ذهبيةٌ،والفاشل فيها مصيرُهُ أن يكون مع مشردي الشوارع.لذا هنا المنافسةُ على أشدِّها،والأثمن عندهم هو قيمة الوقت،فنحن في بلادنا نجلس ساعات للشتيمة واللعنات على الأمة الأميركية،فيما هو تفكيره وعمله لا يشبه الذي يشتُمُه.وهذا الشتّام إذا منحتَه الجنسية الأميركية فسيترك الشتم ويتحول إلى شاعر ليلى أمريكا.
فأكثر المواقف المتشنِّجة والمراهقة والتي تصدر من بعض الإسلاميين والعرب على شاشات التلفزة تٌساهم بالضرر على واقع ومستقبل المسلمين في أمريكا وعامة بلاد الغرب،ويقول عليه السلام: المسلمُ ليسَ باللعَّان ولا الطعَّان ولا الفاحشِ البذيء.ويقول: الكلمةُ الطيبةُ صدقة.فبدل شتم وتهديد الحكومة الأميركية بسبب سوء سياستها الخارجية لماذا لا تُبادِر وتتعاون مع المسلمين هناك لتشكيل لوبي ضاغط لمناصرة القضايا العربية؟
أما إذا أردتُ نقدَ سياسيي أمريكا فهذا حقك،والشعب الأميركي يساعد ويدعمك في ذلك،لأنها حرية في التعبير عما تتضايق منه شرط بلا عنف.
فواقع المسلمين في امريكا وبلاد الغرب لا يحتمل مواقفَ سلبية تجاه تلك الدول التي يقيمون فيها،بل هم بحاجة إلى صوت حكمةِ داعيةٍ وعقلنةِ خطيبٍ وفكرِ إمامٍ عادل،وبغير ذلك ستزداد موجات الكراهية ضدهم،عوضاً انهم متَّهمون من قبل جماعات متطرفة بأنّ المسلمين إرهابيون ويريدون تحكيم الشريعة وتغيير التركيبة وأسلمة القارة،فيا أيها المتوتِّرون رفقاً بإخوانكم في بلاد الغرب،الذين هم قوة لمجتمعاتكم ولقضاياكم،عليكم أن تراعوا مصالحَهم وواقعَهم،لأنّ مواقفَكم وسلوكَكُم يعرِّضُهم لخطر الترحيل والمضايقات والكر اهية وتشديد الإجراءات والبعثات الدراسية.
يقول عليه السلام: المسلم ُ مَنْ سَلِمَ الناسُ من لسانِه ويدِه...والسلام
صالح حامد