يقول السيّد الأمين: “نعتبر أن الشعر هو من أرقى الفنون إن لم نقل أرقاها على الإطلاق، وذلك أن مادته هي اللغة، فيما الفنون الأخرى كالرسم والنحت والموسيقى وغيرها من الفنون، فإنها ذات مادة خارجة عن الكائن الإنساني كالحجر والخشب والألوان والإيقاعات الموسيقية المعتمدة على مادة أخرى أيضاً ليست جزءاً من الوجدان الإنساني كما هي الكلمة.وبكل الأحوال فإن جميع الفنون متشابهة من حيث كونها تتجاوز اللغة المباشرة سواء كانت هذه اللغة كلاماً أو حجراً أو إلى ما هنالك من وسائل وأدوات الإبداع الفني”.
وعن تعريفه للشعر يقول السيد الامين: “الشّعر مفهوم، بل مصطلح تسهل الإشارة إليه، ولكن يصعب إن لم يكن يستحيل تعريفه تعريفاً دقيقاً، فالتعريف الكلاسيكي القديم للشعر عند العرب هو “الكلام الموزون المقفّى”، والحق أن هذه صفات الشعر وليست تعريفاً كاملاً ودقيقاً للشعر من حيث جوهره فليس كل موزون ومقفّى شعراً ما لم يتوفّر على عناصر أخرى لا يمكن تحديدها تماماً وإن أمكن تذوّقها والتأثّر بها ولا شك أن لغتنا العربية هي لغة شعرية بامتياز”.
ويتابع: “نبدأ بهذه المقدمة لتناول الموقف الديني الإسلامي من الشعر، فمن المعروف أنه عند نزول الوحي القرآني على النبي كان العرب يتعاطون فن الشعر ويعلون من شأنه، وقد تميزت أشعارهم بكثير من الإبداع والجودة، وكانوا يفاخرون بشعرائهم وبفصاحة كلامهم، وعندما نزل القرآن الكريم احتار العرب ونقادهم بتوصيف هذا النص القرآني معترفين بسموّه وبلاغته، فتارة كانوا يطلقون عليه إسم الشعر أو يقولون أنه سحر يؤثر، ولكن ما لبث القرآن الكريم حتى أثبت فرادة نصّه وأنه نوع مختلف من الكلام السائد لدى العرب، فلا هو بالشعر تماماً ولا هو بالنثر تماماً، بل هو صنف جديد وغير مسبوق في الأساليب العربية المعروفة.
وأمام هذه الظاهرة، يقول المرحوم طه حسين عميد الأدب العربي “أن اللغة العربية تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي شعر، ونثر، وقرآن”. وعن السمعة السيّئة للشعر في تلك المرحلة يقول السيد الأمين: “من الطبيعي أن العرب الذين حاربوا الإسلام والرسول وكذّبوه كانت الإداة الأساسية التي يستعملونها في هذه الحرب هي الشعر، وكان هذا الشعر يهجو النبي ويهجو القرآن الكريم ويجري تعميمه على الناس كوسيلة من وسائل صدّ الناس عن الإيمان بالنبي وبوحيّ الله. وقد تناول القرآن الكريم هذه الظاهرة، وهجا هؤلاء الشعراء من حيث كونهم يروّجون للجحود وإنكار النبوة من خلال قوله تعالى في سورة الشعراء: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ”.
وهنا يلاحظ السيد الأمين “ان الآية الثانية المكملة تستثني المؤمنين من هؤلاء الشعراء من الذمّ، وهم الذين كانوا يناصرون الرسول ورسالته وسنأتي على ذكر ذلك لاحقا”.
ويتوقّف السيّد الامين عند “هذا الموقف القرآني بشيء من الحيرة وذلك لأسباب عديدة، منها أن لغة الشعر العربيّ وكونها لغة عالية راقية وتساعد لدى العالمين بها على معرفة أماكن الإبداع والإعجاز في النص القرآني، فالمفترض في مثل هذه الحالة أن يتعاطف الإسلام مع الشعر، لكونه وسيلة إعداد ثقافياً تقرّب الأذواق من فهم لغة القرآن وإعجازها”
ويشرح “أي من الأسباب التي تدعو إلى الاستغراب في الوهلة الأولى من موقف القرآن تجاه الشعر هو أن الرسول(ص)، كان له أصحاب من المؤمنين به يقولون الشعر وكان يشجعهم على هجوم المشتركين، ويستخدم سلاح الشعر في سبيل الدعوة إلى الإسلام.
ومن هنا كان له كما هو معروف شاعر عربي مميز سمي بشاعر الرسول وهو حسان بن ثابت الأنصاري، الذي كان يقرّبه الرسول ويدعو بأن يسدده الله للردّ على هؤلاء الشعراء الغاوين، بما يعني في النتيجة أن الإسلام لا ينفي الشعر، وليس هو ضد مبدأ قول الشعر، ولكنه موقف في مواجهة الشعر الذي يمارس عملية التضليل وهي، الإسلام. ومن هنا أستثني القرآن الكريم من الشعراء، المؤمنين منهم، بحيث لا تنطبق عليهم الصفات السلبية التي وصف فيها الشعراء”.
ويؤكد السيد الأمين ان المسلمين لاحقا اهتموا بالشعر وأعلوا من شأن الشعراء أيضا ” فلا بد من التوقف عند حركة ازدهار الشعر العربي في العصور الإسلامية التالية لدعوة الإسلام وانتشاره، وخاصة في العصر الأموي والعباسي بصورة خاصة، فلو كان للإسلام موقف يعادي الشعر أو يحاربه لما وجدنا هذا الإقبال على الشعر في هذه العصور ولما وجدنا ان الكثير من فقهاء المسلمين كانوا شعراء أيضاً”.
وبالنسبة لأغراض الشعر الغزلية والخمريات، يقول السيد الأمين” لم يمنع الإسلام الشعراء من تناول موضوعات تبدو في ظاهرها منافية لمزاج الدين كالغزل، والتشبيب والخمريات، وقد لاحظنا أن الجوّ الإسلامي لم يضق ذرعاً بشعر الخمريات رغم تحريم تعاطي الخمر، على اعتبار أن قول الشعر في الخمرة ليس بالضرورة دعوة إلى معاقرتها، بل أن الكثيرين من شعراء التصوّف والعرفان امتلأت أشعارهم بتناول الخمرة، وشكّلت في أدبهم نوعاً من الرمز إلى نشوة الحبّ الإلهي كما هو واضح في أشعار الصوفيين بصورة عامة، كما يمكن أن نلاحظ أن كثيراً من الفقهاء لهم في الخمريات قصائد كثيرة في الوقت الذي توجد فيه استحالة أن يكون أحدهم قد عاقر الخمرة، ولكنهم قالوا شعراً في الخمرة جرياً على التقاليد الشعرية وبعضهم بدأ قصائده في مدح الرسول أو الأئمة بأبيات تنتمي إلى شعر الخمريات والغزل، والخمريات هو سكر في ذات الله، وكمثال على ذلك قصيدة كعب بن زهير المسماة بالبردة لأن النبي الذي مدحه كعب بهذه القصيدة خلع على كعب بردته، وتبدأ هذه القصيدة بأبيات من الغزل فمطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول/ متيم أثرها لم يفد مكبول”.
وبالخلاصة، وفي نقد لمرحلة من مراحل البدايات والتشدّد الديني الذي لم يستمر طويلا يقول السيد الأمين: “إن موقف الإسلام من الشعر العربي لا يمكن اختزاله والاقتصار فيه على مرحلة محدودة كانت الدعوة الإسلامية فيها تتقدّم عن كل ما عداها، ومن الصحيح من وجهة نظري أن الإسلام في المرحلة الأولى من الدعوة تراجع فيها مستوى الشعر العربي بالقياس إلى الشعر الجاهلي ما قبل الإسلام، وذلك لانصراف المسلمين إلى الآداب القرآني