شُوهِد "قاسم سليماني" مؤخراً يتحرُّك بحريّة على الصفحة الأولى لصحيفة "كيهان"، كان مرتدياً زيّه الزيتونيّ، فالرّجل قد تستدعيه واحدة من الحروبِ في أيِّ لحظة، ولحيته دقيقة تماماً كما هي في الصور العسكريّة الشهيرة، وتجهّمه مدروس فهو غالباً قادمٌ من مهمّة "استشارية" في سوريا، وفي صفحة داخلية تحدّثَ بالحِبْر المكشوف عن حتميّة النصر في واحدة من "الحروب المقدّسة".
"الجنرال" لا يجلس على كرسيٍّ، خفيفٌ هو، وأحياناً يبدو لا مرئياً كالشبح، العاملون في وكالة "فارس" تفاجأوا به يجلس أمام المحرّر المسؤول، ليلقّنَه تصريحاً ذهبياً عن زيارته إلى "موسكو"، فهناك التقى الرجل الروسيّ الأول، وإنْ قال "الكرملين" إنّ ذلك "لم يحدث"، فهذا لأنَّ اعتبارات أمنيّة جعلته يذهب بهيئة "رجل ثلج" في نهار مشمس! لم يصب "قاسم سليماني" قبل أربعة أشهر سوى بخدشٍ في الجَبين، وشَعْر في الساق، كما تقولُ "الخرافة" الإيرانية، أما الأنباء التي وردت من حلب بأنّ شظية "تاو" أصابت رأس الجنرال الأشيب، فهي "حرب نفسيّة" رديئة لا تقنع الإنسان الإيرانيّ الذي ينتظر خطبة "المرشد" ليعرفَ أحوال الطقس، والأمتار الجديدة لحدود البلاد.
التلفزيون قال إنّ "الجنرال" حيٌّ يمشي على ساقين واثقتين، سليمُ الرأس والدماغ يعمل بطاقة إضافية، خرجَ من مستشفى "بقية الله"، بلاصق بحجم خنصر الطفل على الجبين، وجَبيرة من قماش شفّاف على الساق، لم يغب عن الأنظار سوى أيام استثمرها "الجنرال" كأيِّ معافى في نقاهة قصيرة بغابات غيلان، ثمّ عاد إلى واحدة من الحروب، وتناول الإفطار في صنعاء، وقبل موعد الغداء كان في بيروت، وشربَ الشاي العراقيّ في الشام! لا يموتُ "الجنرال"، تقول "الخرافة" الإيرانية، ولا تسقط عاصمة من كفّه، لا يتأخّر "الحاج" عن الصعود إلى منصّة معدّة للتعبئة "الثورية"، فهو "صانع الفجر" في مذكّرات الحرب، (تلك الحرب الطويلة التي انتهت بتجرّع السمِّ). ليس ضرورياً أنْ يشاهده الإيرانيون "الجنرال" واقفاً على المنصّة، يكفي أنْ يُسمَع صوته مسجَّلاً، وليس مهماً إنْ لم يُسمَعَ صوته، يكفي أنْ يُقرأ كلامه على صفحات "كيهان"، ولا تظنُّ أنَّ مواطناً إيرانياً ينتظر خطبة "المرشد" ليعرفَ أحوال الطقس والأمتار الجديدة وراء حدود بلاده، يمكن أن يدخل ذهنه شكٌّ أنّ المحرر المسؤول كتبَ ما كان "الجنرال" سيقوله لو كان حياً ولو كان قادراً على الحياة.
لا يموت "قاسم سليماني"، ففي "الخرافة" الإيرانيّة، بعد أن تصبح العواصم حبّات إضافية في مسبحة المرشد الأعلى، سيذهب "الحاج" شهيداً على خط فلسطين، و"لا شهادة إلا في مسار القدس"! نائم هو الجنرال "الحاج قاسم سليماني" في مستشفى "بقية الله"، نومَة الجنرال "أرئيل شارون" في مستشفى "هداسا". هي "كوما" ربّما وهو الآن بعينين مفتوحتين نحو السقف، ومحاولات مشفقةٍ للنطق الأول.
ليس هذا فقط "القاسم" بين "قاسم" و"شارون"، فمن قبل هذا المصير، هما كارهان للعرب ولأسمائهم، وفي قلبيهما لذّة حارقة في تقليب الجثث، مغروران كمنتصرين على الحق، ومشتركان هما في سجل قانٍ من الإجرام: ففي سوريا هناك "قبية"، وفي اليمن "صبرا"، وأيضاً "شاتيلا"، وفي العراق "جنين" وأسوار واقية، وحالمان وفي حلمهما قول مشتركٌ نسخته الأصلية بالعبريّة وربّما له ترجمة فارسية: "جميعنا يجب أن يتحرّك، أن يركض، يجب أنْ نستولي على مزيد من التلال". الجنرالان نائمان، لكنّ "الحاج" ينهضُ في أيِّ وقت إذا استدعته "الخرافة"!
نادر الرنتيسي موقع 24