لم تَستطع اتصالات اللحظات الأخيرة الإنقاذية التي أجراها كلّ مِن وزيرَي خارجية أميركا جون كيري وروسيا سيرغي لافروف، تَصحيح مسار عقد مؤتمر «جنيف ٣» السوري، ما اضطرهما للقبول بانعقاده وفق صيغة منقوصة (غياب التمثيل الكردي) وتحت سقف جدول أعمال للنقاش قد لا يؤدّي بالضرورة الى تحقيق الهدف المركزي للقرار ٢٢٥٤ الذي يوصي بأن تبدأ عملية السلام السورية بوقف إطلاق نار شامل.
انطلقت عملياً أعمال «جنيف٣» بعد تأخير موعده ثلاث مرات متتالية (من موعده الأساس في ٢٥ الشهر الماضي الى ٢٩ الجاري منه الى يوم امس). وقد عُقد في الموعد الجديد، ليس لأنّ المشكلات التي تسبّبت بتأجيله حُلّت، بل بعدما تيقّن الجانبان الروسي والأميركي من أنّ «جنيف٣» سيتعذر عقده وفق نسخة الخطة الاساسية التي وُضعت بالتشارك بين لافروف وكيري، لشكل وفوده ومادة نقاشه.
وكشفت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» أبرز مفاصل النقاشات التي حصلت أثناء التفاوض على تطبيق النسخة الأصلية لـ»جنيف٣»، اضافة إلى أبرز اقتراحاتها. وأوضحت هذه المصادر أنّ خطة المؤتمر، حسب نسختها الأصلية، كانت تفترض أن يسبقها تفاهم دَولي وإقليمي على تحديد لائحة القوى الإرهابية التي ستُستبعد من المشاركة في العملية السياسية السلمية السورية.
ولكنّ تحقيق هذا الهدف اصطدم باستمرار الخلاف في شأنه بين موسكو من ناحية وبين السعودية وتركيا، وبدرجة أقل، قطر من ناحية ثانية. وتمّ استلحاق هذا الخلاف لكي لا يؤدّي الى نسف عقد «جنيف٣»، وذلك بعدما اضطر المبعوث الدولي ستيفان دو ميستورا تحت ضغط انتظار حلّ هذا الخلاف الى تأجيل موعد عقده ثلاث مرات على التوالي.
وسُوّي الأمر بادئ الأمر ومبدئياً عن طريق التفاهم على عقد مؤتمر جنيف عبر دعوة فريقين من المعارضة: فريق معارضة مؤتمر الرياض الذي يحظى بثقة السعودية وتركيا، وفريق معارضة آخر يضمّ الأكراد وشخصيات معارضة في الخارج أبرزها هيثم المناع وقدري جميل وضمنه أيضاً المعارضة الداخلية غير المسلّحة، وهذا الوفد يحظى بدعم موسكو، ويوجد في شأنه تفاهم بالحدّ الأدنى بين كيري ولافروف.
وكان تمّ وفق هذه «النسخة الأصلية» لمؤتمر «جنيف٣» طرح فكرة لشكل المفاوضات فيه، مفادها أن يجلس الوفدان المعارضان كلّ في غرفة مستقلة، وأن تُدار المفاوضات عبر دو ميستورا بينهما كلّ على حدة مع الحكومة.
ولكنّ هذه المسودة لشكل المؤتمر وآلية أعماله وطبيعة وفدي المعارضة اليه، قوبلت برفض سعودي وتركي، علماً أنّ موسكو في لحظة معينة من التفاوض، وتحديداً نهايات الشهر الماضي، بادرت الى اتصالات مباشرة وعالية المستوى مع ولي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ومع امير قطر الشيخ تميم وأيضاً وزير الخارجية القطري خالد العطية لإقناعهم بهذه الخطة لعقد «جنيف٣»، ولكنّ كلّ مسار هذه المبادرة التفاوضية الروسية اصطدم برفض السعوديين والقطريين لها.
بحيث أصرّ القطريون، بحسب المصادر عينها، على تمثيل المجموعات ذات الأصول الاخوانية في مفاوضات «جنيف٣»، وعلى أنْ لا تشملهم اللائحة الدولية المصنّفة للمجموعات الارهابية في سوريا.
فيما تشدّد السعوديون في موضوعين، أوّلهما الإصرار على إِشراك «جيش الاسلام»، في حين أرادت موسكو استثناءه؛ وأيضاً على رفضها بالتشارك مع تركيا، قبول أيّ حضور للفصائل الكردية مفاوضات «جنيف٣»، وخصوصاً صالح مسلم؛ علماً أنّ موسكو نصّبت نفسها داعمة لتمثلهم في المؤتمر.
وتكشف المصادر الديبلوماسية عينها أنّ «جنيف٣» وفق الصيغة الراهنة الذي عُقد فيها، لن يؤدّي الى نتائج مهمة أقله خلال جولته الاولى التي سيعمد كلّ من لافروف وكيري الى تقويمها ولكلّ مسار المؤتمر في ١١ شباط الجاري، وذلك على هامش اجتماع المجموعة الدَولية لدعم سوريا في ميونيخ.
ويسود الكواليس الديبلوماسية اقتناع بأنه لن يكون ممكناً في المدى المنظور تفعيل أعمال «جنيف٣» بحيث يفضي الى هدف إعلان وقف اطلاق للنار في سوريا، وذلك نظراً للاسباب الآتية:
أولاً، استمرار الخلاف السعودي - التركي مع موسكو على تحديد المنظمات الإرهابية في سوريا التي ستشملها اللائحة الدَولية.
ثانياً - توقع أن تتبدّد جدّية واشنطن لإنتاج حلّ في هذه المرحلة للأزمة السورية نظراً لدخول أميركا أجواء التحضير للانتخابات الرئاسية التي ستعقد في تشرين الثاني 2016. وحتى انقضاء هذا التاريخ ثمّة احتمال كبير بأن تعود لغة الحرب للسيطرة على مشهد الازمة السورية بدلاً من لغة التفاوض والديبلوماسية.
وثمّة معلومات مصدرها دمشق تدعم احتمالات عودة العنف المستطير الى المشهد السوري خلال الفترة المقبلة، وأبرزها ما يُشاع من أنّ الروس - الذين وصلت اليهم خلال سعيهم لانجاح مؤتمر «جنيف٣» علامات صعوبة «إنتاج حلّ في المدى القريب» وقبل انتهاء الانتخابات الأميركية، وضعوا الى جانب إبقاء نشاطهم السياسي قائماً على جبهة العمل الديبلوماسي لانتاج حلّ سلمي للأزمة السورية، خطة عسكرية موازية لتطبيقها على
الأرض خلال فترة الوقت الضائع الديبلوماسي والسياسي، وقوامها تمكين الجيش السوري وحلفائه من السيطرة خلال ستة اشهر على كلّ المنطقة الممتدة من الحدود مع لبنان حتى الحدود مع الأردن، واستكمال الزحف لتأمين ريف اللاذقية وأيضاً الوصول الى جسر الشغور، وحشر كلّ المعارضة العسكرية في منطقة «داعش».
تزامناً، ستقوم طهران من ناحيتها بتنظيم حشود عسكرية مشكلة من قوى تابعة لها للسيطرة على «باب الهوا» في حلب. وهي بذلك تريد تعزيز مكانتها العسكرية داخل معادلة الـ«سوخوي» الروسية التي مكنت الروس من الاستحواذ على ناصية القرار العسكري المساند للنظام في سوريا.
وتكشف هذه المعلومات أنّ موسكو تعمل على تشكيل قوة عسكرية من جنود وضباط قدامى خدموا في الجيش السوفياتي وهم من أبناء جمهوريات الاتحاد السوفياتي القديمة. وترمي هذه الخطة الى إيصال عددهم الى ٣٠ الف مقاتل من النخب السابقة في جيش الاتحاد السوفياتي القديم، يتمّ تشغيلهم عبر شركات أمنية خاصة على غرار الشركات الأميركية الخاصة التي استخدمها الجيش الأميركي في العراق، وذلك مقابل 2000 دولار لكلّ مقاتل شهرياً.
أكراد سوريا وواشنطن
وبالعودة الى المصادر الديبلوماسية حول الوقائع الخفيّة التي برزت خلال طريق المفاوضات لعقد مؤتمر «جنيف٣»، فإنها تكشف أنّ ابرزَ النتائج المباشرة المتوقعة لانعقاده حصولُ تصعيد في الأزمة الكردية في كلٍّ من تركيا والعراق وسوريا، وذلك كردّ فعل على استثناء التمثيل الكردي من المؤتمر.
وكانت إرهاصات هذا التوقّع برزت بعد يوم واحد من تأكّد صالح مسلم بأنه لن يُدعى الى مؤتمر جنيف، حيث أعلن حزبه (الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني) عن إنشاء منطقة حكم ذاتي في عفرين في سوريا.
وترى مصادر متابعة أنّ عدم إصرار واشنطن على حضور الأكراد «جنيف٣»، ينمّ عن أمرين، إما أنها لا تعوّل كثيراً على هذا المؤتمر وترى فيه شراءً للوقت السياسي الضائع، أو أنها تريد تحاشي الدخول في أزمة مع تركيا وذلك في وقت ترى فيه أنّ الوقت لم يحن بعد للقضاء على «داعش».
والمعلوم في هذا الإطار أنّ واشنطن بقيت طوال الأزمة السورية تعتبر الأكراد السوريين بمثابة جيشها على الارض.
وقد رشحت أكثر من دراسة صادرة عن مراكز أبحاث قريبة من البنتاغون أكراد سوريا ليقوموا بمهمة ملء الفراغ الأمني والخدماتي في مناطق «داعش» بعد طردها منها.
ولكن على ما يبدو فإنّ مجمل هذا التوجّه الأميركي للاستثمار في أكراد سوريا معرّض الآن للانهيار، نظراً للتعقيدات الاقليمية التي تعترضه. فتركيا تُهدّد بأنها ستتدخل برّياً وتجتاح مناطق الأكراد في سوريا، في حال تمدّد الكرد خارج مناطقهم أو أعلنوا حكماً ذاتياً أو إدارة ذاتية داخل مناطقهم.
والواقع أنّ القاعدة العسكرية الاميركية التي أنشأتها واشنطن في الرميلان الواقعة في المناطق السورية الكردية، تُجسّد عمق التعاون العسكري الاميركي - الكردي داخل الحرب السورية الناشبة منذ العام ٢٠١١.
فخلال العامين الماضيين نفذ أكراد سوريا كلّ المهمات التي طلبتها منهم واشنطن ضدّ «داعش»: استعادوا «سدّ تشرين» منه، وطردوا عناصره من منبج، وخاضوا معارك لربط كلّ مناطقهم الكردية المحاذية للحدود مع تركيا بعضها مع بعض، وصمدوا في كوباني. وكلّ هذه المعارك خاضوها بضوء أخضر من أميركا وبغطاء جوّي أميركي.
ولكن حالياً وصلت العلاقة بين أكراد سوريا وواشنطن الى نقطة صعبة، خصوصاً بعدما تبيّن للأكراد أنّها لم تستطع أن تضمن لهم، لقاءَ كلّ خدماتهم العسكرية لها، ولو مقعداً واحداً في «جنيف٣». صحيحٌ أنّ الأكراد يخوضون الحرب ضدّ «داعش» دفاعاً عن أنفسهم، ولكنّ الصحيح أيضاً أنهم يُعتبرون عسكر واشنطن الوحيد على الأرض السورية.
والسؤال الذي يَطرحه الكرد السوريون الآن هو عن الثّمن السياسي الذي يمكن أن توفره لهم واشنطن في التسوية السورية، وفي حال تقاعست كما ظهر خلال اختبار «جنيف٣»، فمَن هي الجهة البديلة التي تضمن لهم عدم إخراجهم من معادلة الحلّ السوري عندما يؤون أوانه؟
بحسب مصادر كردية، فإنّ حزب العمال الكردستاني في كردستان الغربية (سوريا) لديه ثلاثة حلفاء داخل المشهد الراهن من الأزمة السورية: النظام السوري الذي يتحالف مع الكرد من موقع استخدامهم ضدّ المعارضة السلفية المسلّحة. موسكو التي ضغطت خلال التفاوض على تشكيل وفد المعارضة في اتجاه أن يكون هناك ممثل للكرد السوريين. أما الجهة الثالثة فهي الغرب وخصوصاً كلّ من أميركا وفرنسا.
ولكن الكرد فوجئوا بموقف واشنطن البارد وعدم الضغط لتمثيلهم في «جنيف٣»، وفوجئوا أيضاً بموقف فرنسا الصادم لهم، كونها اصطفت الى جانب القوى الاقليمية التي وضعت «فيتو» على حضور صالح مسلم الى جنيف، علماً أنّ الحكومة الفرنسية قبلت منذ عامين بفتح ممثليّة لحزبه في شارع الشانزليزيه في باريس.
وكشفت مصادر كردية لـ«الجمهورية»، أنّ الكرد السوريين عالقون حالياً بين خيارات كلّها غير منتجة، أبرزها خيار استمرارهم في الرهان على أميركا مع ملاحظة أنّ واشنطن قادرة ولكن لا يمكن الوثوق بها؛ خيار الرهان على موسكو علماً أنها أكثر إيحاءً بالصدقية ولكنها أقل قدرة من أميركا؛ والرهان على النظام السوري الذي يتّسم بأنه غير قادر ولديه نقاط تلاق تكتيكية مع الأكراد لا استراتيجية.
قصّة التفاوض الديبلوماسي على «جنيف٣»
قصّة التفاوض الديبلوماسي على...لبنان الجديد
NewLebanon
التعريفات:
مصدر:
الجمهورية
|
عدد القراء:
616
مقالات ذات صلة
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل ( ٨ ) سفارة لبنان في...
الشاعر محمد علي شمس الدين يترجل عن صهوة الحياة الى دار...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (7) سفارة لبنان في...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (6) سفارة لبنان في المانيا...
65% من المعلومات المضللة عن لقاحات كوفيد-19 نشرها 12...
لبنان: المزيد من حالات وارتفاع نسبة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro