كانت أقصى طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عودته إلى السلطة سنة 2012 الحفاظ على موقع بلاده المرموق في الساحة الدولية، وحماية مصالحها كدولة تتمتع بسيادة دولية، منحتها إياها عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، والتمسك بمؤسسات الشرعية الدولية كناظم للعلاقات الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الخاصة للدول، والذي من شأنه أن يضع عراقيل أمام حماسة واشنطن للثورات الملونة، التي ارتعبت موسكو من عدواها.
إلا أن إشارات عديدة التقطتها رادارات الكرملين مصدرها البيت الأبيض، مع بداية الولاية الثانية والأخيرة لباراك أوباما، تعامل معها الخبراء الروس باعتبارها دلائل تشجع على الاستثمار السريع لبوادر انسحاب أميركي من قضايا دولية، لها علاقة بالأمن القومي الروسي والاستقرار العالمي. فبدءًا بتراجع الرئيس أوباما عن معاقبة ديكتاتور سوريا بشار الأسد على استخدامه السلاح الكيماوي، والاكتفاء بمصادرة أدوات الجريمة، مع التخلي الفاضح عن دعم تطلعات الشعب السوري، ومرورًا بالسلوك الغريب لإدارة البيت الأبيض مع تركيا، ومحاولة تحجيم دورها في الملفين العراقي والسوري، وتراجع العلاقة التاريخية بين واشنطن وحلفائها التقليديين في الخليج العربي، مع حماستها المفرطة لتطبيع العلاقة مع طهران، وعدم تنفيذها للوعود الاقتصادية والسياسية والدفاعية التي أعطتها لحكومة كييف، من أجل الصمود في وجه الغطرسة الروسية، كل هذه تحولات أدت إلى تغيير جوهري في السلوك الروسي على الساحة الدولية، ودفع صناع القرار في الكرملين إلى اتخاذ خطوات تصعيدية في وجه الدول المتمسكة بالنتائج الجيوسياسية لما بعد الحرب الباردة، خصوصًا المجاورة لها، المرتابة أصلاً من شعور روسي بالتعافي، بسبب العائدات السياسية والاقتصادية الناتجة عن ارتفاع الطلب الأوروبي والآسيوي على الطاقة الروسية في السنوات العشر الأخيرة، والقلقة من نزعة إمبراطورية توسعية وعقيدة أوروآسيوية مقيمة في العقل الروسي منذ بطرس الأكبر، مرورًا بالسوفيات وصولاً إلى فلاديمير بوتين، والتي تبرز عندما تقرر موسكو أن لديها الفرصة لتطبيقها بغض النظر عن الوقائع المحيطة والإمكانيات المتاحة.
ضبطت موسكو ساعتها على التوقيت السوري، وحددت ساعة الصفر، فأرسلت مقاتلاتها إلى سماء الشرق الأوسط، وعززت قواتها البحرية في المياه الدافئة، هذا الإجراء بالنسبة لقادتها هو فرض قبول أممي بدورها، فانتزعت من الولايات المتحدة الاعتراف الصريح بشراكتها، ووضعت طهران خلفها، ورسمت بالنار حدود المسموح لأنقرة في سوريا، وعرضت على العراق شراكة أمنية وعسكرية، وقررت تطبيق النموذج الشيشاني في سوريا، وسط صمت عالمي، وشبه غطاء من الأمم المتحدة، التي استطاعت تعطيلها كلما تعارضت قراراتها مع مصالحها.
على مدى ربع قرن، عاشت الذاكرة السياسية الروسية عقدة نتائج اجتماع وزير الخارجية السوفياتي شيفاردنادزه مع نظيره الأميركي جيمس بيكر في مطار موسكو في 2 أغسطس (آب) 1990، الذي أسس بنظر الروس لسياسة الانبطاح السوفياتية، والتبعية الروسية للإرادة الأميركية المنتصرة في الحرب الباردة، إلى أن جاءت الفرصة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ليحول نظيره الأميركي إلى شبه مبعوث روسي، يمثل المصالح الروسية في أكثر المناطق حيوية بالنسبة لواشنطن، ويعيد تسليط الضوء نحو موسكو، بعدما استطاع فلاديمير بوتين انتزاع صورة الرجل الأقوى من رئيس أميركا المتواري خلف الأطلسي، والذي تحول في سنواته الأخيرة إلى إحدى أهم أوراق القوة التي تملكها موسكو.
رغم سياسة العنجهية التي تمارسها، لن تستطيع موسكو إخفاء تخلفها التقني وتراجعها الصناعي ومأزقها الاقتصادي، وهي تعي جيدًا أنها محاصرة في أوكرانيا بموقف أوروبي يضع حدًا لمهزلة التعاطي الأميركي مع الأمن الجماعي الأوروبي، وأنها مطالبة بسرعة الحسم في سوريا حتى لا تجر إلى حرب استنزاف تكون نتائجها أسوأ من الحرب الأفغانية، بالتزامن مع هبوط أسعار الطاقة التي تضعها على حافة الإفلاس، ولكن إلى أن يحين موعد انتخاب رئيس أميركي جديد في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ستبقى موسكو المدير المؤقت للأزمات الدولية، تمارس أحادية قطبية مؤقتة.
(مصطفى فحص-الشرق الأوسط)