لا يجوز إختزال الطائفة الشيعية في لبنان بأحد نجومها الجدد، المطلوب للعدالة نوح زعيتر. لكن هذا ما ستبادر اليه بقية الطوائف التي تابعت حديثه التلفزيوني الاخير، على شاشة “الجديد”، ورأت فيه متحدثاً صريحاً، عفوياً، صادقاً، باسم طائفته، يبوح بما لا يجروء المتحدثون الاخرون على البوح به.. ولا ينقصه سوى بعض الثقافة وبعض البلاغة، لكي يصبح ناطقاً رسمياً يؤخذ كلامه على محمل الجد، ويصنف في خانة المواقف المعترف بها.
لم يكن نوح زعيتر في إطلالته التلفزيونية يرفه عن نفسه او عن المشاهدين. لعله كان يمهد لانتزاع الاعتراف بطموحه الى تشكيل حالة سياسية-اجتماعية تسد ما يبدو له من فراغ القوة والسلطة والدولة والحزب والحركة في تلك البيئة المتمردة على قوانين الجغرافيا اللبنانية والعاصية لأحكامها. وقد لا يكون الارتقاء من نموذج شعبي يستلهم اسطورة روبن هود في تلك البيئة، الى مقاعد الادارة او النيابة او حتى الوزارة صعباً. فقد سبق لآخرين من البقاع وسواه ان سلكوا هذا الدرب بنجاح. ولم تقف مذكرات التوقيف بجرائم قتل او سرقة او ترويج مخدرات عائقاً أمام مستقبلهم السياسي.
شاشة الجديد قدمت نجماً جديداً في عالم السياسة اللبنانية وعجائبه التي لا تنضب. ولولا اقتناعها بدوره المتواضع، حتى الان على الاقل، لكانت ربما جادلته في الاقتصاد العالمي وأسعار النفط وأثرها على مستقبل روسيا والصين، وناقشته في الثورات العربية ومآلاتها، برغم انه يمكن التكهن برأيه فيها، في ضوء ما يقوله في الثورة السورية او في دور إيران او في الصراع بين السنة والشيعة..والذي يتفق مع ما تعتقده الغالبية الشيعية.
بعض الكلام كان فظاً، جارحاً، مضحكاً، لكنه معبرٌ جداً عما تؤمن به تلك الغالبية ولا تخفيه أبداً، على اختلاف درجات ثقافتها وتعليمها، بل وحتى وعيها بهويتها المذهبية. هي كلها على موقف موحد من السنة والخليج والمنقذ الايراني والمحرر الروسي والمتآمر الاميركي. يستوي في ذلك الماركسيون والعلمانيون والمؤمنون الشيعة.. الذين ضحكوا كثيراً لكلام نوح زعيتر، ولم يشعروا بأي حرج أو خوف.
يمكن ان تنسب ظاهرة نوح زعيتر الى حالة الحرب التي تعيشها منطقة البقاع، والتي يمكن ان يطل من هوامشها نجوم يطمحون لاداء دور الدولة والحزب والحركة معاً.. والتحدث نيابة عن جمهور افتراضي واسع لا يعوزه الناطقون باسمه، بقدر ما يفتقد الصرحاء الذين لا يرتدون القفازات ولا يختارون الكلمات بعناية. نافس نوح زعيتر كثيرين، لكن اللغة خانته ربما، ولم يستطع ان يكسب هذه الجولة مع منافسيه الذين يبرعون في التعبير هذه الايام عن الاندماج بالنظام السوري أكثر بكثير من مواليه السوريين، وعن الانخراط في الصراع الايراني مع العرب اكثر من الايرانيين أنفسهم، بل أبعد من المرشد علي خامنئي نفسه الذي إستنكر إحراق السفارة السعودية في طهران وإعتذر وحاسبَ وعاقبَ، فيما وكلاؤه اللبنانيون ما زالوا يطالبونه بالمزيد من الحرائق.
هؤلاء جميعاً رأوا انفسهم في نوح زعيتر، او لعلهم رأوا بعضا منهم في تلك الشخصية النموذجية التي تشاركهم الجينات نفسها، وتعبر ضمناً عما يعتمل في نفوسهم ويتراكم في تجربتهم من رفض لفكرة الدولة ومرجعيتها، وإحتقار لمؤسساتها وقوانينها، وإزدراء لكل من يطمح الى بنائها وتطويرها..تلك الشخصية التي تتقاسم معهم الاقامة الدائمة خارج الحدود والاوطان، وتهب نفسها لفلسطين تارة، وإيران تارة أخرى، وسوريا (الاسد) دوماً، من دون أي حساب للاكلاف التي تكبر يوماً بعد يوم، وتنذر بالتحول الى خطر وجودي على الطائفة بأسرها. نوح زعيتر ليس حالة شاذة. هو فقط نموذج متطرف، متحرر من القيود. هذا بلا شك ما تقوله غالبية الطائفة التي كانت بالامس تبحث عن مبررات لخروجه عن اللياقة ليس إلا.. وهذا ما تؤمن به جميع الطوائف الاخرى من دون استثناء، وإن كانت لا تجاهر به بحكم اللياقة ليس إلا.