بعدما أصبح الاتفاق النووي أمراً واقعاً مع تمكن ايران من انتزاع حريتها الاقتصادية برفع العقوبات الدولية عنها، بات من المحال مقاربة ملفات المنطقة بالنظرة عينها التي سبقت دخول الاتفاق حيز التنفيذ، فالاتفاق الذي وصفه الرئيس الأميركي "باراك اوباما" بانه" تقدم تاريخي حصل بفضل الدبلوماسية من دون خوض حرب جديدة في الشرق الأوسط"، شكّل ورقة استراتيجية رُسمت من خلالها قواعد جديدة للعبة في المنطقة نتج عنها خارطة طريق جديدة لنفوذ القوى الكبرى فيها لم تكن وليدة لحظتها، وإنما خُطط لها منذ دخول الدب الروسي على خط الوساطة بين الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ودول الممانعة وعلى رأسها ايران. كما لم تكن تلك الدول غائبة عن مراميها، وإنما استعدادها المسبق منذ بدء المفاوضات حول الملف النووي لتقديم التنازلات في العديد من الاوراق الحساسة لكل منها في المنطقة، شكّل الرافعة والدفع الاكبر نحو انجاز هذا الاتفاق.
إلّا أنه لا يمكن قراءة الجهود الروسية طيلة فترة التفاوض حول الملف النووي وحتى تاريخه تحت خانة " فعل الخير" دون انتظار "جزاء او شكورا"، فمما لا شك فيه أن لروسيا مطامع تاريخية في منطقة الشرق الاوسط ورغبة دفينة في استعادة ما خسرته سابقا نتيجة سلسلة من الاخفاقات وقعت فيها سابقا، من هنا فان روسيا ما زالت بانتظار دورها في قطف ثمار هذا الاتفاق، ويبدو أن الوجهة الأساسية لها اليوم هي سوريا، وفقا لما عبّر عنه دبلوماسي روسي رفيع المستوى في دمشق بقوله: "غررت الدول الغربية بنا ولن نسامحها أبداً على لجوئها الاحادي الجانب الى قرار مجلس الامن الدولي من أجل الاستيلاء على ليبيا وبالتالي لن نسمح أبداً بالاستيلاء على سوريا"، هذه الحماسة الروسية التي برزت جلياً مع دخولها الميدان السوري وانتزاعها الوصايا من يد ايران عبر استدعائها رأس النظام السوري "بشار الأسد" للقاء الرئيس "فلاديمير بوتين" الذي لا شك انه لم يكن خالياً من الاغراءات الروسية، كشف عن صراع خفي على النفوذ في سوريا مع ايران التي بدورها لم تخف امتعاضها من التدخل الروسي في الميدان السوري، والذي عبر عنه دبلوماسي ايراني كبير بقوله: "أن روسيا تريد قطف ثمار تضحيات إيران في سوريا"،
هذا الصراع على النفوذ بين موسكو وطهران وان كان حتى الساعة لم يظهر بشكل نافرعلى منابر المسؤولين الروس والايرانيين، الاّ ان هذا المشهد يبدو أنه لن يطول كثيراً، سيما مع بروز سعي لتسريع وتيرة الحل السوري ميدانياً وفق لما كشفه وزير الخارجية الاميركي "جون كيري" الاسبوع الجاري، حيث أعلن بأن التحالف الدولي سيوجه "ضربات قاصمة" خلال الأشهر المقبلة ضد التنظيم"، هذا وأشار وزير الدفاع الاميركي "أشتون كارتر" أيضا على وجود بحث جدي عن امكانية دخول قوات على الارض السورية للقضاء على داعش واصفا هذا الدخول بالمسألة الاستراتيجية"، تزامن هذا الاعلان مع تصريح لرئيس الاركان الروسية النائب الاول لوزير الدفاع الروسي "فاليري غيراسيموف" حول حصول عمليات قتالية كثيفة في سوريا يقوم بها الجيش السوري بفضل عمليات سلاح الجو الروسي مؤكدا انهم سيكسرون "مقاومة داعش عاجلاً ام آجلاً"،
في ظل هذا الاصرار الروسي تحديدا على تحرير الساحة السورية، دون الاشارة الى تضحيات ايران وحلفائها المستمر في الحفاظ على حليفها النظام السوري ورأسه الاسد، وفي محاربة المنظمات الارهابية، تُطرح علامات استفهام كبيرة عن موقف ايران وحليفه حزب الله حيال ذلك، وما هو مصير تضحياتهما في سوريا في حال صدقت روسيا في وعيدها ونجحت في اخراج سوريا من أزمتها؟ وماذا سيكون عليه الرد في حال قررت روسيا إخراج إيران وحلفائها نهائيا من المعادلة السورية؟
ربما الإجابة عن هذه التساؤلات في الوقت الحاضر قد تكون أشبه بـ"الضرب بالرمل" ولكن هذا لا يعني عدم وجود مناخ معين قد يصلح للتأسيس عليه في الاجابة عن هذه التساؤلات،والذي يمكن استخلاصه من التصريح الذي جاء على لسان وزير الخارجية الايرانية "محمد جواد ظريف" على هامش لقاء "منتدى دافوس الاقتصادي العالمي" الذي عقد الاسبوع الماضي، والذي اعترف به بشكل غير مباشر بـ"الخسارة" في معرض دفاعه عن الحل السياسي للحرب في سوريا بقوله: "لا يأحذ فيه الفائز كل شيء، ولا يصبح فيه الخاسر خالي الوفاض"، هذا الاعتراف لا شك انه مقرون بمعطيات تؤشر إلى إستعداد إيراني لتقبل الخسارة ولكن مقابل مع بعض المغانم، إلا أن هذه المغانم لن تكون على حساب الانتصار الاستراتيجي الكبير الذي حصدته ايران في الملف النووي والذي "فتح صفحة ذهبية في تاريخها وشكل انتصارا لعهد" روحاني على حد تعبير الأخير "ونقطة تحول لاقتصاد ايران وفرصة كي تقطع الحبل السري الموصول بالنفط وتنمية البلاد وزيادة رفاهيتها". وهي بالتالي لن تقدم على اي خطوة يمكن ان تجرها الى طاولة مجلس الامن مجددا وتعيد فرض العقوبات الدولية عليها.
من هنا ومع تبدل الاولويات لدى إيران كما بات واضحاً، ونجاح روسيا بصيد الأخيرة عبر صنارة الاتفاق النووي بالتنسيق مع الولايات المتحدة الاميركية، ليس مستبعداً أن تشكل الساحة السورية مسرح التنازل الإيراني الاول لصالح روسيا التي يبدو ان سقف طموحها في المنطقة سيتخطى كل التوقعات، بحيث من الممكن أن يطال مسألة وجود حزب الله في سوريا،ومستقبل علاقته مع سوريا التي شكلت طيلة العقود السابقة "صندوق أمانات" لسلاحه وخط امداده الاول.
ولكن بكل حال، يبقى ذلك رهن تطور الاحداث السورية بوجهيها الدبلوماسي والميداني خاصة وأن الكلمة الايرانية الفصل في الميدان السوري هي بيد مرشد الثورة على خامنئي وليست بيد الرئيس "روحاني" وفق ما كشف السفير الايراني الاسبق في سوريا "سيد احمد موسوي"، الامر الذي يجعل مهمة الرئيس" روحاني" صعبة في هذا المجال، لا بل تضعه في موقف العاجزعن تقديم اية تنازلات اكيدة في الوقت الحاضر في الميدان السوري، وتضع في الوقت عينه المكتسبات التي حققها في الاتفاق النووي امام مخاطر كبيرة غير محمودة.
لبنان 24