لا مبّررات أحياناً لقرارات شخصيّة، وحده الفرد يملك حقّ اتّخاذها وتحديد الغاية منها.
غالباً ما تفرض الظروف واقعاً "غير منتظر" يطرأ على حياة الأفراد، فتأتي ردّة الفعل إمّا إنكاراً ورفضاً وإمّا تقبّلاً وتعايشاً مع ما هو جديد، وإمّا تمرّداً على كلّ ما لم تصنعه أيديهم، ليكون الانتحار "سبيلاً" يرى فيه البعض مخلّصاً و معبراً لراحة "أبدية".
يُعتبر الانتحار ثاني سبب للوفاة عند من تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين، بحسب تقرير صادر عن منظمّة الصحة العالمية.
تحدث العديد من حالات الانتحار فجأة في لحظات الأزمة، نتيجة انهيار القدرة على التعامل مع ضغوط أو ظروف الحياة، ليصل عدد الذين يضعون نهاية لحياتهم عمداً إلى ثمانمئة ألف شخص بحسب التقرير ذاته.
على الرغم من الاختلاف في أنماط سلوك الأشخاص المقبلين على هذا "الخطر"، إلا أنّ الإصرار على اتخاذ قرار كهذا والاقتناع به سببه، بحسب علم النفس، عدم قدرة هؤلاء على طلب المساعدة.
*** "بلحظة وحدة كل شي بروح، وراح". تحكي داليا عن المأساة التي حلّت بعائلتها عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، حين قضى أفراد عائلتها الثلاثة في حادث سير. الفتاة التي كانت تنتظر، كالعادة، أحداً من أهلها خلف بوابة مدرستها الزرقاء، لم تستوعب يومها حجم الكارثة التي وقعت.
بثقل الأيّام، مرّت سنونها من دون أن يغيب الوجع، تاركاً فيها رغبة قويّة بالانتقام من الحياة. وعلى الرغم من احتضان بيت جدّها لها، كما عائلتها الكبرى، إلاّ أنّها لم تعرف كيف تتعامل مع الحياة بشخصية متوازنة، بحسب قولها.
هي التي قدّرت، وما تزال، جهود الذين أحاطوها بالرعاية والحب والاهتمام، لم تشعر سوى بتعويضٍ بسيطٍ عمّا كانت تحتاج إليه.
تقول داليا: "لمّا صرت بالجامعة قدرت إفهم شو اللي كنت حسّ في كلّ الوقت. قدرت أعطيه توصيف: عدم الانتماء. كان بدّي حس إنّي بنتمي لشي منّو عابر ومنّو ظرفي. كان بدّي عيلتي! لكن ما لقيت حلّ تاني غير إنّي روح لعندها".
حاولت داليا الانتحار. ربّما وجدت في ذلك سبيلاً لانتماء ما مع من تخاف أن تنسى رائحتهم وتفاصيل وجوههم. "حتّى بهيدي ما نصفتني الحياة وقتها"، تقول الشابة. تضيف: "ما ندمت! لو الوقت بيرجع لورا كنت عملت ذات الشي". معلّمة اللغة الأجنبية التي ظلّت معلّقة بين ماضيها وحاضرها، استطاع "نصفها الحيّ" أن يخوض غمار حبّ، بعد محاولات عدّة فاشلة، أثمر طفلين. "صاروا أرضي ومطرحي اللي بحبّه وبنتمي لإلو، بس بيضلّ في شي ناقص".
*** تتذكّر ريم، ابنة السبعة وعشرين عاماً، محاولتها المجنونة قبل عشر سنوات. يومها اكتشفت أنّ العالم الذي تعيش فيه ليس عالماً مثالياً، وأنّ من شكّلوا عالمها ليسوا مثاليين أيضاً. تلك الفجوة التي حصلت بين صورة تكوّنت في رأسها عن "العالم المثالي" الذي ترغب بالعيش فيه وبين "العالم الحقيقي" الذي كان عليها مواجهته شكّلت عندها صدمة قويّة دفعتها لمحاولة انتحار "بهدف الانتقال إلى العالم الذي تستحق الوجود فيه"، حسب قولها.
"لمّا وعيت ع حالي شو عملت، خجلت من حالي وبكيت كتير". تعرّضت ريم لصدمة كردّة فعل على صدمتها الأولى.
استطاعت بعدها بثلاثة أشهر أن تتخطّى تلك المرحلة، خاصة أنّها لم تلقَ الدعم المعنوي من أهلها، بل على العكس تماماً: الكثير من اللوم والعتب والقليل من المسامحة.
"الإنسان اللي بفكّر ينتحر ما ضروري يكون إنسان ضعيف من جوّا، بس كان لازم غيّر هالفكرة عنّي لأقدر كفّي وكون قويّة". كان الندم رفيقها الدائم. لكن بعدما استطاعت مسامحة نفسها تحرّرت من كلّ ما حصل لتبدأ بنفس جديد. "بعد عشر سنين أكيد أنا إنسانة تانية، شخصية مختلفة بأفكار وقناعات مختلفة". *** لم يكن زاهي يدرك أنّ مرض والدته ومتابعته حالتها الصحيّة والعصبيّة لأكثر من سبع سنوات سيدفع به يوماً إلى تناول أدويتها لا إرادياً.
الشاب الذي تابع تطوّرات حالة والدته، وشهد النوبات العصبية التي كانت تمرّ بها، وحفظ المواعيد الطبيّة، وأنواع الأدوية المختلفة والكميّات المطلوبة منها، حاول جاهداً ألّا يتأثّر. لكنّ الأمور جرت بما لا يشتهيه.
كان الإرهاق والإحساس المفاجئ بالكآبة أولى الإشارات التي لم يستطع فهمها وإدراك أبعادها، "صرت عاني من مشكلة إمّي وأنا منّي حاسس". أزالت محاولته "الفاشلة" في وضع حدّ لحياته الغموض عن كلّ ما كان مستوراً، ليجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الاعتراف والبدء بالمعالجة، وإمّا الإنكار والغوص أكثر في عوارض هذه الحالة.
وعملاً بمبدأ "الاعتراف بالمشكلة هو نصف الحل" كان لا بدّ من العلاج النفسيّ. كان سبب محاولة الانتحار تلفاً في قسم من الدماغ بحسب ما كشفه المعالج. أوجب ذلك علاجاً استمرّ سنة وشهرين أنشأ حالةً من التوازن بين الحب والغضب، بحسب زاهي. يقول: "صرت شخص متصالح مع حالو.
قادر اتحكّم بمسار حياتي، وآخذ قرارات صح. واللي كان بدّي ياه صار: إنّو كون مبسوط".