يشتد الضغط على «الأذرع الإقليمية» لإيران في المنطقة، وخصوصا «حزب الله» الذي يسعى الإسرائيليون الى تضخيم دوره وإمكاناته.. إلى حد يصبح فيه «عدوّهم الكوني الأول» الذي لا يتقدم عليه «عدو» آخر!
ومن يقرأ النص الذي أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في «منتدى دافوس» فقد يجد تفسيراً لقوانين العقوبات المالية الأميركية الأخيرة التي استهدفت «حزب الله» تحديدا. لمّح نتنياهو الى نوع من الصفقة أبرمها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتزامن مع إبرام الاتفاق النووي. في أساس هذه الصفقة، تركيز الضغط على «حزب الله» و «تفكيك شبكاته الإرهابية في شتى أنحاء العالم»!
اقتضى التفاهم النووي تقديم «جائزة ترضية» أو مجموعة «رشى» للاسرائيليين، أبرزها ما يتصل بمستقبل التعامل الأميركي مع «حزب الله». لا ينتهي الأمر هنا. يسعى «اللوبي الاسرائيلي» في الولايات المتحدة الى تكثيف الضغط على «المؤسسة الأم» في ايران: «الحرس الثوري» بكل امتداداته السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية في المنطقة، وإلا فكيف يمكن أن يفسر شمول العقوبات الأخيرة شخصيات لبنانية تعمل في العراق البلد الذي يشكو الأميركيون من هيمنة «الحرس الثوري» على قطاعاته الاقتصادية الحيوية!
وللضغوط المالية على لبنان زمنها الدولي والاقليمي. التوقيت متصل بتداعيات التفاهم النووي أولاً ثم بمجموعة عناوين كبرى. هل يمكن للصراع مع اسرائيل (هدنة أو تسوية) أن يكون جزءاً من أي تفاهم مستقبلي بين الأميركيين والايرانيين أم أنه ليس مطروحا للتفاوض من وجهة نظر أي فريق ايراني؟
لا ينبغي تجاوز ما يُرسم من خرائط في المنطقة. يمتزج الدم بالنفط والمياه وبترسانات الأسلحة وحبر عقود التسلح غير المسبوق. تتسابق وفود المستثمرين من شتى أنحاء العالم نحو طهران، وبينهم لبنانيون يحاولون حجز مساحة في العديد من القطاعات هناك. تأتي القوانين التي يقرها الأميركيون ليس تعبيراً عن «الفرص» الاقتصادية بل بمواجهة الآخرين ممن يحاولون تبديدها عبر الفوز بها.
تتكثّف مساعي التسوية السياسية في سوريا، ويبدأ العد العكسي لإطلاق مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين ممثلي النظام والمعارضة في جنيف. يبدأ الحديث عن وقف نار ومصالحات. عشرات المشاريع جاهزة لإطلاق ورشة إعمار سوريا الجديدة. في العراق، ثمة تنافس اقتصادي وتجاري محموم، وعندما يقترب رجال أعمال لبنانيون من قطاعات حيوية مثل النفط والاتصالات، يكاد يصيبهم ما أصاب أقرانهم في الماضي القريب في أفريقيا أو في قارات أخرى، لكأن هناك من يرفع «البطاقة»: لقد تجاوزتم الخطوط الحمراء.
هذه الخطوط موجودة عند عتبة كل مشروع حيوي في شتى أنحاء العالم.. وهنا، يسجل للبنانيين شجاعتهم وحيويتهم ولو أنها ترتد سلباً عليهم في بعض الأحيان.
في السياسة والأمن، لا تكون اللعبة مضمونة النتائج بل محكومة بضوابط وتوازنات معينة.. في الاقتصاد، تضيق حدود اللعبة كثيراً، خصوصاً اذا كان الأميركي هو الخصم.. والحكم في آن معا. هو المتحكم بالعملة والقطاع المصرفي والاقتصاد العالمي. هل تستطيع دول مثل ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين مواجهته؟ حتماً لا تستطيع، فكيف الحال مع لبنان؟
من هنا، يمكن القول إن القانون الذي أقره الكونغرس الأميركي مؤخراً ويتعلّق بمطاردة أموال لبنانيّين تحت شبهة علاقتهم بـ «حزب الله»، قد أصاب لبنان وقطاعه المصرفي بالضرر. أما وأن ما كُتب قد كُتب، فكيف يمكن تخفيف الضرر؟

هذا السؤال هو في صلب المهمة التي انبرت لها جمعية المصارف اللبنانية التي توجه وفد منها، أمس، الى واشنطن (ينضم جزء آخر اليه غداً الأحد) بهدف تسليم المسؤولين الأميركيين نسخاً من القوانين التي أقرها مجلس النواب مؤخراً بعدما ترجمتها دوائر مجلس النواب رسمياً الى اللغة الانكليزية، ومضمونها كلها امتثال لبنان وقطاعه المصرفي للنظام المالي العالمي وتحديداً الأميركي.
وكما هو معروف، فإن القانون الأول يتعلق بانضمام لبنان الى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الارهاب، الثاني يقضي بوجوب التصريح عن المبالغ التي يحملها أي شخص عبر المنافذ الحدودية إذا تجاوزت قيمتها 15 ألف دولار أميركي، الثالث متصل بتبادل المعلومات من أجل مكافحة التهرب من الضرائب، الرابع ويتعلق بالتعديلات على قانون مكافحة تبييض الأموال.
بيت القصيد أن هذه القوانين كان ينبغي أن تقر منذ زمن بعيد، ولو حصل ذلك، لأمكن للبنان أن يتجنب الكثير من المطبات. وفي موازاتها، كان ينبغي أن يكون لبنان حاضراً في المنابر الدولية، وخصوصاً الأميركية والأوروبية، من أجل الشرح والتوضيح، غير أن واقع الفراغ والتعطيل الحكومي والنيابي.. وأخيرا الرئاسي، ارتد سلباً على لبنان، بغيابه عن هذه المنابر وافتقاده المبادرة في أكثر من مجال حيوي.
من هذه الزاوية، وفي مواجهة القانون الذي أقره الكونغرس الأميركي، يسجل للمجلس النيابي أنه كان مبادرا. رئيسه نبيه بري وجه رسالة للرئيس الأميركي باراك أوباما عبر السفير الأميركي في بيروت، حثه فيها على وقف مسار تنفيذ القانون الأميركي ضد «حزب الله»، في إشارة واضحة الى المراسيم التطبيقية التي يفترض أن تترجمها وتتحمل مسؤوليتها الحكومة الأميركية.
وما إن تم الكشف عن مضمون الرسالة من قبل الأميركيين، تم توظيف الرحلة المقررة لوفد جمعية المصارف في الاتجاه نفسه. الخطوة التالية تمثلت بتشكيل لجنة نيابية برئاسة النائب ياسين جابر عقدت سلسلة اجتماعات أبرزها مع جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة وبعض الخبراء، وخلصت الى اتخاذ توصية بوجوب القيام بزيارة الى العاصمة الأميركية في النصف الثاني من شباط المقبل، ربما تسبقها أو تليها زيارات الى بعض العواصم الأوروبية. «الانطباع أحيانا يكون أهم من القانون أو الحقيقة. هذه وظيفة الزيارة. ليس المطلوب لا سؤال الأميركيين لماذا أقروا القانون ولا هل هم بوارد إلغائه»؟ كما يردد أحد أبرز المتابعين لهذا الملف.
«السؤال يتعلق بنا كلبنانيين وبقدرتنا على تقديم صورة مختلفة عن أنفسنا: لبنان يواجه تحديات وجودية وهو يشكل رأس حربة في مواجهة خطر الإرهاب. التحديات اللبنانية كثيرة وكبيرة. تحدي النازحين السوريين المليوني وما يستنزف من قدرات لبنانية. تحدي اللجوء الفلسطيني. لبنان نموذج عالمي فريد للمعنى الحقيقي للعيش المشترك. استهداف القطاع المصرفي في لبنان في هذه المرحلة يهدد الاقتصاد اللبناني برمته وبالتالي يعرّض لبنان لخطر كبير ستكون عواقبه وخيمة. لبنان دولة صديقة وليست عدوة للولايات المتحدة والشعب الأميركي.. واستهداف فئة لبنانية يتنافى وتقاليد الولايات المتحدة وأبسط مبادىء حقوق الإنسان».
انطلاقاً من هذه العناوين سيكون لزاماً على الوفد النيابي أن يتحول الى «لوبي» في الإعلام الأميركي والغربي، كما في طرق أبواب المؤسسات الحكومية الأميركية وباقي دوائر القرار. المهمة لا تتوقف على زيارة، بل على تواصل مستمر.. وحسناً فعل وزير المال علي حسن خليل بأن بدأ بإجراء اتصالات تمهد لزيارة يقوم بها الى الولايات المتحدة في السياق ذاته، على أن يتكفل بجزء من هذه المسؤولية مستقبلا وزير الخارجية جبران باسيل.
وظيفة هذا الاستنفار الديبلوماسي، ومعه الجهد الذي يقوم به حاكم مصرف لبنان، هو إبلاغ الأميركيين رسالة واضحة مفادها أن التزام القطاع المصرفي في لبنان بالقوانين اللبنانية وتعاميم مصرف لبنان كفيل وحده بحماية المصارف اللبنانية، وبالتالي، يمكن وضع القانون الأميركي في خانة توجيه رسالة سياسية للبنان سرعان ما وصلت.. بدليل الإجراءات التي تقوم بها المصارف، ولو أنها تشي أحياناً بمبالغات تصل الى حد تخطي مصرف لبنان والتواصل مع الدوائر الأميركية مباشرة من أجل ضمان عدم ارتكاب «فاولات» على طريقة المصرف اللبناني الذي «تبرع» برفض توطين رواتب نواب «حزب الله»!
يملك لبنان إمكانات كثيرة برغم ضائقته الاقتصادية، ولعل أبرزها ثروته النفطية النائمة في مياه المتوسط وتلك التي لم تتبلور ملامحها النهائية في البر. هذا معطى اقتصادي كبير يمكن استثماره وربما يضعه الأميركيون في الحسبان في إطار التنافس الاقتصادي بينهم وبين الروس والصينيين وبعض الشركات الأوروبية على «الفرص» في العديد من ساحات المنطقة، وبينها الأرض الايرانية التي تملك ثروات طبيعية هائلة.
هل للأمر أبعاد أخرى؟
الجواب نعم. يكفي أن الأميركيين يطالبون الإيرانيين في معظم اللقاءات التي تلت إبرام التفاهم النووي بإزاحة رموز «الحرس الثوري» في وزارة الخارجية الإيرانية عن الملفات السياسية الإقليمية. وما يسري على مساعد وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان تحديداً، يسري على قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني الذي يطالب الأميركيون أيضا بانسحابه من ساحات المنطقة الأمنية والعسكرية.
هل يعتبر «حزب الله» جزءاً لا يتجزأ من هذه «الرموز» وهل الكلمة الفصل في موضوع مستقبل الصراع مع إسرائيل في يد هذه المنظومة تحديداً؟
بمعزل عن الجواب، سيتخذ التفاوض في المرحلة المقبلة أشكالا مختلفة.. ولن يكون مفاجئا أن تتكثّف وتيرة الإجراءات ضد «حزب الله» وبيئته الحاضنة.
إنها «الحرب الناعمة» التي رصد لها الأميركيون والإسرائيليون (ومعهم بعض العرب) منذ العام 2005 حتى الآن مئات ملايين الدولارات.