مع تأخر تطبيق خطة "ترحيل" النفايات، من المفيد العودة إلى جذور المسألة التي غَدَت من الأزمات المستعصية التي تعجز السلطات عن معالجتها بعدما أصبحت عرضة لتجاذبات القوى السياسية كأي معضلة أخرى، حتى أن هاجس الطوائف تسلَّل إلى حاويات القمامة ومطامرها.

تبيّن الدراسات ان 90% من النفايات الصلبة في لبنان هي نفايات منزلية ينتج لبنان منها نحو 6 آلاف طن يومياً. وتصنّف 60% من هذه النفايات كنفايات عضوية، فيما تتوزع البقية بين الورق والكرتون ومواد البلاستيك والزجاج والمعادن، اضافة الى العوادم والنفايات الخطرة كالبطاريات والأدوية وعبوات مواد التنظيف، يضاف اليها نفايات المسالخ والمزارع والمستشفيات التي لا تزال ترمى في المكبّات العشوائية.
ويشرح الخبير الاقتصادي سمير الضاهر المعضلة انطلاقاً من اساس المشكلة، فيشير الى أنه منذ عام 1993 تم تغييب الجهات المعنية عن ملف النفايات من وزارات وسلطات بلدية، ليتم توكيله عبر عقود بالتراضي لشركتي "سوكلين" و"سوكومي" في ما يخص بيروت وجبل لبنان، بكلفة قدّرت بنحو 75 مليون دولار سنوياً تدفع مباشرة من الصندوق البلدي المستقل. ومع إنهاء عقد الشركتين، طرحت الحكومة مناقصات جديدة سرعان ما قررت إلغاءها بسبب ما شابها من لغط وتأويل. وفيما تردد أن هذه المناقصات "رست على أسعار تراوح بين سقف أعلى (205 دولارات)، وسقف أدنى (123 دولاراً للطن الواحد) أي أعلى من أسعار "سوكلين"، اشارت وزارة البيئة الى أن هذه الأسعار تشمل اقامة معامل للمعالجة وتحضير المطامر وتجهيزها، في حين كانت "سوكلين" تشغِل معامل موجودة، كما تشمل هذه الأسعار عمليات الكنس الذي لم تكن "سوكلين" تقوم به خارج بيروت. ولفت الى أن طرح الحكومة انشاء مطامر خارج العاصمة بيروت لاستقبال نفاياتها، جبه برفض شعبي عارم في مناطق عكّار إلى النبطية والبقاع والشويفات، وذلك انطلاقاً من مبدأ "لكل بلدة قمامتها"!.
ولفت الضاهر الى انها "كانت موضوع دراسات عدة من جانب الحكومة، بدءاً بالخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية" سنة 2005 ( لم تقرها الحكومة إلّا في 2009)، والتي اقترحت بمقاربة أوليّة تقسيم لبنان إلى 11 منطقة. ثم تلتها عام 2006 "الاستراتيجية المقترحة لإدارة النفايات المنزلية الصلبة" التي أعدها مجلس الإنماء والإعمار، بالتعاون مع وزارتي البيئة، والداخلية والبلديات وتضمنت إيجاد مراكز للطمر والفرز والتخمير في جميع المناطق، إضافة الى إشراك القطاع الخاص في ادارة النفايات الصلبة. فقد قسمت هذه الخطة لبنان الى 4 مناطق خدماتية هي: محافظتا الشمال وعكار، محافظتا البقاع وبعلبك - الهرمل، محافظتا الجنوب والنبطية، ومحافظتا بيروت وجبل لبنان مع تحديد عدد المطامر الصحية بـ 28 مطمراً.
ومع تأخر تنفيذ خطة 2006 جاء القرار رقم 55 بتاريخ 1/9/2010 ليدخل اليها تعديلات طفيفة وليستكمل تالياً بقرار من 10 نقاط ابرزها امكان تنفيذ أنظمة تحويل النفايات الى طاقة في المدن الكبرى. وقد جدد القرار التزام الحكومة الخطة الأساسية التي تشمل المطامر عبر كل الأراضي اللبنانية. واعتبر الضاهر ان هذه الخطة شاملة ومتكاملة جغرافياً وزمنياً وبيئياً ومالياً، وتفتح في الوقت عينه المجال أمام مختلف التقنيات والابتكارات للمشاركة في المناقصات المتعلقة بالقطاع. واعتبرت وزارة البيئة أن وضعَ القرار رقم 46 حيّز التنفيذ سيسمح بإقفال مطمر الناعمة مع توفير البديل العملي من دون التسبب في أزمة للمواطنين في القرى والبلديات المعنية. الجدير ذكره ان خطة وزارة البيئة كانت الأولى من نوعها حيال شموليتها، أكان في الشق التنفيذي القائم على كنس النفايات وجمعها ونقلها ومعالجتها مع التخلص النهائي من العوادم، أم في الشق القانوني عبر تشريع يحدد الاطار العام لإدارة متكاملة للنفايات الصلبة، أو الشق التخطيطي الذي يتضمن إعداد تقويم بيئي استراتيجي للنفايات الصلبة. علماً أن الخطة لا تغفل مسألة العدالة في ما يتعلق بتحمّل الأوزار، وذلك عبر التعويض على البلدات (التي استضافت مطمراً لأكثر من 17 سنة)، تعويضاً مالياً، - أو مالياً غير مباشر، أو وقاية صحية. وأخيراً هناك التوعية البيئية عبر تعميم ثقافة الفرز من المصدر وصولاً الى اللامركزية في ادارة النفايات الصلبة.
أمام هذا الواقع، اعتبر الضاهر ان أزمة النفايات تخطت حدود المعقول والمقبول لما لها من تداعيات وانعكاسات على الصحة والبيئة، وهي تتطلب حلاً شاملاً وعاجلاً عبر اطلاق خطوات عملية لتفادي كارثة حتمية، بما فيها:
- إعادة مسؤولية إدارة الملف إلى مؤسسات الدولة المعنية، وتحديداً وزارة البيئة، ووزارة الداخلية والبلديات، ومجلس الإنماء والإعمار، ومنظومة البلديات واتحاداتها. ولهذه المؤسسات قرار التواصل بما ترى بهيئات المجتمع الأهلي لما فيه المصلحة العامة لإيجاد الحلول المواتية.
- العودة إلى المرسوم الإشتراعي رقم 118/77 الذي صدر عام 1977 والمتعلق بتوزيع أموال الصندوق البلدي المستقل واستخدامها، بما في ذلك بلديات بيروت وجبل لبنان، كي تسترجع كل البلديات مسؤولياتها في موضوع النفايات. وفي هذا النطاق يصلح العزوف عن الإعتماد بشكل رئيسي على مركزية المعالجة ضمن استراتيجية تعنى كذلك بحماية المياه الجوفية، ما قد يشكل نموذجاً ريادياً في تحقيق اللامركزية وتوعية المجتمع في آن واحد.
- العودة الى الخطة الوطنية الشاملة وأساسها "الاستراتيجية المقترحة لإدارة النفايات المنزلية الصلبة" التي اعدها مجلس الإنماء والإعمار عام 2006، والتي تعتمد على المطامر الصحية (28 مطمراً في المناطق) مع التعديلات التي أدخلت عليها بالقرارين رقم 55 (1/9/2010) ورقم 46 (30/10/2014).
- الاتفاق على معالجة سريعة للنفايات التي تراكمت عبر الأشهر الماضية، ما قد يتطلب تدابير وأساليب جذرية (ترحيل، إحراق...) لمرَّة واحدة لا تشكل أساساً ومرجعاً للسياسات والحلول التي يجب أن تُعتمد على نحو مستدام.